القوتان العظميان في زمننا هما: الولايات المتحدة والصين «فهل تنشب «حرب باردة» بينهما؟!»- موضوعياً: نعم! ذاتياً: لا... فلا توجّه لأي قوة لمواجهة القوة الأخرى خارج نطاق الدبلوماسية السلمية، رغم تنامي «تناقضات» بينهما في المصالح التي تتصادم عادةً بشأنها الدول، وقد سمعنا- أخيراً– شكوى أميركية ضد الصين في إفريقيا على لسان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، عندما قال ثمة أساليب «غير أخلاقية» لها في القارة السمراء، ولكن الاتصالات «الودية» جارية بين الطرفين من زيارة رئيس الصين المتوقعة بعد أيام إلى واشنطن، إلى زيارة وزير الدفاع الأميركي إلى بكين قبله لتحسين العلاقات العسكرية!

Ad

فقدت الولايات المتحدة ميزة «أحادية» القوة بعد ما سُميّ «بانهيار» الاتحاد السوفياتي. (وحقيقة الأمر أن روسيا الأوروبية البيضاء قررت الانسحاب من المواجهة المرهقة بالتخلص من «مستعمراتها» في آسيا الوسطى وشرق أوروبا- كغيرها من دول أوروبا الكبرى كبريطانيا وفرنسا التي تخلصت من مستعمراتها وأعادت صياغة مستقبلها في ظل الوحدة الأوروبية، وذلك بالتخلص أيضاً من الإيديولوجيا الشيوعية التي تبنتها روسيا مطلع القرن العشرين لتوفير الغطاء الإيديولوجي السياسي والمبرر الأخلاقي للسيطرة على تلك المستعمرات، وربما اكتشفت موسكو بعد زمن أن انضمامها إلى أوروبا الموحدة هو البديل التاريخي الطبيعي).

بإيجاز، فقدت الولايات المتحدة ميزة «أحادية القوة» في العالم بصعود الصين وتلك المنظومة من القوى الكبرى- كأوروبا وروسيا والهند والبرازيل- فليـس في المنطق الطبيعي أو الاجتماعي البشري، أو الإلهي الديني بقاء قوة واحدة في عالمنا فحتى الدودة الصغيرة، في الطبيعة، تنقسم إلى اثنتين، وفي الفكر البشري المعبر عن المجتمع والتاريخ تستند «الجدلية» سواء كانت هيغلية روحية أو ماركسية مادية إلى ضدين، أو كما عبر عربياً توفيق الحكيم بمصطلح «التعادلية». وفي تاريخ الأديان ثمة صراع بين الظلمة والنور كما في الزراديشتية الفارسية، وبين الله وإبليس، كما في الأديان السماوية، أو كما قال القرآن الكريم: «ولو شاء الله لجعلهم أمةً واحدة»- (8- الشورى).

هذا وقد أسرّت الصين أخيراً إلى بعض أصدقائها العرب الذين شجعوها على «مواجهة» أميركا (المنحازة لإسرائيل) بأنها لا تميل إلى هكذا مواجهة، كما اتضح أيضاً من تسريبات «ويكيليكس» أن الصين لا تمانع في توحيد الكوريتين في ظل كوريا الجنوبية إذا بادلتها واشنطن بعض المنافع الاقتصادية. فالقوة الصينية صارت تتصرف اليوم كقوة براغماتية أكثر منها إيديولوجية (وهنا مكمن خطورتها وأهميتها في العالم)، فلا يهم «لون» القطة إذا كانت تصيد الفئران، كما يقال في بكين هذه الأيام! وإذا كانت الصين قد منعت إدانة كوريا الشمالية في مجلس الأمن، فإن ذلك مقابل «المرونة» التي أبدتها حيال جارتها الجنوبية، و»الانفراج» الملاحظ في تلك المنطقة.

ثمة إجماع عالمي على أن الصين قوة صاعدة «بنعومة» وتمسكها بهذا الأسلوب «الناعم» مرده لاعتبارات ومعطيات في المحيط الإقليمي في شرق آسيا وفي الوضع الدولي، خصوصاً بمواجهة الوجود الأميركي في الشرق الآسيوي. غير أن بعض الدراسات الغربية عن الصين لا تتوقع استمرار هذه «النعومة» الصينية، وترى أن ثمة وجهاً آخر لها سيظهر في الوقت الذي تراه «مناسباً». كما أن كبار الاستراتيجيين الأميركيين، كبريجينسكي، يفكرون اليوم في كيفية «احتوائها».

قبل زمن غير بعيد أرادت الإدارة الأميركية إرسال وزير دفاعها، روبرت غيتس، إلى بكين لمحادثات مع قادة جيش «التحرير» الصيني، لكن رد بكين لم يكن بـ»النعومة» الكافية، فقد قيل لواشنطن إن الوقت «غير مناسب» لمجيء وزير الدفاع الأميركي، وإن عليه أن يطرق الباب ثانيةً بعد شهر أو اثنين عندما يشعر قادة الجيش الصيني أنهم مستعدون للقائه، والآن- فقط- جاءت زيارته المرتقبة!

وفي الآونة الأخيرة، أخذت تتواتر الأنباء عن ازدياد القلق الأميركي والغربي حيال التطور العسكري في الصين (الأهرام، 29/12/2010) كما نسب إلى وزير الدفاع الصيني نفسه قوله إن بلاده تستعد للحرب في كل الاتجاهات.

وقبل زمن غير قصير، أيضاً، نشرت دورية «الشؤون الخارجية» Foreign Affairs الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية، والتي يعتقد أنها تعكس آراء الخارجية الأميركية، رغم تأكيدها حسب تقاليد النشر، إن ما تنشره يمثل رأي صاحبه وقد يتناقض مع رأي كاتب آخر فيها، وهي غير «ملتزمة» به!

ففي أحد أعدادها الأخيرة أبرزت المقالة الرئيسة على الغلاف عن الصين مع تساؤل كاتبه «أين ستقف الصين براً وبحراً وهي ترسم خارطتها الكبرى؟!»

هل هو تعبير عن «قلق» أميركي بشأن توسع الصين أم هي مجرد دراسة «موضوعية»؟

المقالة من منطلقها «الموضوعي» تعكس في النهاية قلقاً أميركياً لا يمكن إغفاله، وكاتبها يرى أن الصين لم تعد تنطلق في مواقفها وسياساتها منطلقاً إيديولوجياً إنما «براغماتياً» وذلك لإرواء تعطشها وتعطش صناعاتها المتنامية- التي تستند إليها قوتها الاقتصادية- إلى المعادن والمواد الخام ومصادر الطاقة. وربما أدى بها هذا «التعطش» إلى مد يدها على بلدان محيطة بها تمتلك تلك المواد الخام.

وهكذا نعود إلى «القصة الأزلية» التي تتلخص في استخدام القوة العسكرية في سبيل المصالح الاقتصادية كما حدث في أوروبا بين رأسمالياتها المتطاحنة من أجـل «الأسواق» و»المواد الخام».

إن وجود الصين جغرافياً في بلدان آسيا الوسطى القريبة منها والتي انحسر عنها النفوذ الروسي السوفياتي وانفتحت اليوم أمام الآخرين يدخل في هذا الباب كما أن «الدراسة» لا تستبعد توغلاً صينياً يعتمد على كثافتها السكانية وثقلها في بلد يقع إلى شمالها تحت النفوذ الروسي هو «منغوليا» الغني بمواده الخام والفقير بأعداد سكانه الذين لا يتجاوزون الملايين القليلة ويمكن تفسير «التقارب» الأميركي- الروسي ومحاولة التقليل من «اكتشاف» شبكة الجاسوسية الروسية في الولايات المتحدة بأنه لمواجهة الطموحات الصينية، حسب زعم الدورية الأميركية. كما أن حرص الإدارة الأميركية على إنفاذ اتفاقية «ستارت» مع روسيا يصب في هذا الاتجاه.

إن الهند الدولة المجاورة الوحيدة التي لم تحل الصين معها بعد، خلافاتها الحدودية يجري تشجيعها على الاستقواء في وجهها بدعم أميركي وتحالف ياباني بالدرجة الأولى وبدعم روسي بالدرجة الثانية، ثم بمشاركة «هادئة» من جانب الدول الأخرى المحاذية لبحر الصين الجنوبي (البحر الأصفر). وقد زار الرئيس الأميركي الهند أخيراً، وأظهر لها من مؤشرات الدعم ما أدى إلى تقوية المحور الصيني- الباكستاني الذي لا يخلو من دعم «نووي» من الصين إلى باكستان التي تحيط بها من الظروف الموضوعية ما يبعدها عن السياسة الأميركية. وقد نجم عن ذلك بناء الصين لقاعدة عسكرية في «جوادر» التي لا تبعد كثيراً عن الخليج العربي. ولأن الصين لا تريد تصعيداً ومواجهة استقطابية في آسيا، فقد قامت بالرد، دبلوماسياً وسلمياً حيال الهند، وقام رئيس وزرائها بزيارة ودية إلى نيودلهي قد تسفر عن نتائج اقتصادية مهمة ورد الرئيس الروسي بدعم اقتصادي وعسكري أيضاً!

غير أن «التوسع» في البحر ليس بتلك السهولة، أمام الصين، بما في ذلك مد اليد إلى جزيرة تايوان عبر المضيق بينهما، وإن كان «البنتاغون» يتوقع في أحدث تقاريره عن العسكرية الصينية التي يرى أنها تتنامى خفية أن تكون «معركة تايوان» هي أولى معارك الصين العسكرية المتوقعة حيث لن يخوض «الوطن الأم» معركة عسكرية قبل ذلك.

ثم إن القوة اليابانية تقف بالمرصاد للتوسع البحري الصيني، وذلك ما تمخضت عنه المواجهة بين القوتين هناك.

ويبقى أن الصين، وإن كانت تدافع عما تعتبره منطقة نفوذها ومجالها «الاقتصادي الحيوي»، فإنها ليست بصدد الاصطدام بالقوى الغربية، وهي تتبع- حتى هذه اللحظة- دبلوماسية متوازنة للتوفيق بين طموحاتها ومستلزمات السلوك الدولي المقبول. وهي مقتنعة حالياً بهذا النفوذ الاقتصادي وتاركة لواشنطن مسألة الهيمنة العسكرية في المنطقة، وهي شبه محايدة في النزاع بين الكوريتين، وإن كانت كلامياً أميل إلى كوريا الشمالية.

ثم إن الصين، باندفاعتها الاقتصادية والصناعية، توشك أن تقدم نموذجاً فكرياً جديداً للعالم وهو أنه يمكن تحقيق تنمية جادة، دون التزام بالديمقراطية الكلاسيكية. هذا مع عدم إغفال أي عواقب للفجوة المتنامية بين من «يملكون» ومن «لا يملكون» في العمق البشري الصيني، وتأثير ذلك في مستقبلها على المدى البعيد.

ويبقى أن الصين، بتجربتها الحديثة، مازالت تقدم سابقة مشجعة في تاريخ الأمم الشرقية، خصوصاً للعرب الذين يعيشون في تجزئة وخلافات وتراجع.

إن دراسة تجربة النهضة الصينية مسألة مفيدة، وعلى كل عربي أن يتأملها، ليس هي وحدها، إنما تجربة النهضة اليابانية، وكذلك تجربة النهضة الهندية، واستخلاص الدروس منها كلها.

* مفكر من البحرين