- 1 -

Ad

من أهم ما حققه "العراق الجديد" منذ فجر التاسع من أبريل 2003 إلى ما بعد الانتخابات التشريعية في مارس 2010، أنه أنهى أسطورة الزعيم الأوحد في العراق، وأصبح حكام العراق على اختلاف مناصبهم خلال السنوات السبع الماضية مجرد موظفين يأتون ويذهبون. وكان الشعب العراقي، هو الزعيم الأوحد في العراق، فلا عبادة للزعيم الفرد، ولا تمجيد للزعيم القائد، ولا بقاء للحاكم في كرسيه إلا بموجب ما ينص عليه الدستور، ولعل هذا الوضع كان أول حروف أبجديات الديمقراطية، التي شاهدناه ونشهدها الآن في الغرب الديمقراطي، والتي نحاول أن نتعلم منها القليل، رغم عصياننا على هذا التعلم، لأسباب كثيرة.

- 2 -

"تداول السلطة" في العالم العربي، عبارة ليست موجودة على الإطلاق في القاموس السياسي العربي المعاصر، فيما عدا لبنان، الذي كاد أن يمحو هذه العبارة من قاموسه، عندما فُرض التمديد لمدة ثانية لرئاسة إميل لحود. ويعترف الكاتب والناشط السياسي اللبناني كريم بقرادوني، أن "من مراجعة تاريخ لبنان منذ الاستقلال في عام 1943، يتبين أن المادة (49) من الدستور التي نصت على عدم جواز انتخاب رئيس الجمهورية مرة ثانية، تسببت بالكثير من الأزمات والويلات والحروب، وقد راودت معظم رؤساء الجمهورية الرغبة في تعديلها." ("الشرق الأوسط"، 28/8/2004). وقد دعا بقرادوني في سياق حديثه هذا إلى تعديل المادة (49) من الدستور اللبناني، لكي يتم التجديد لرئيس الجمهورية، ولكي لا يتم الانقلاب عليه كما جرى في الماضي. وما عدا لبنان الحديث، فإن العالم العربي بأكمله من ملكيين وجمهوريين يتوارثون الحكم، ابناً عن أب ، وأباً عن جد. وكذلك كان الوضع في العراق قبل  1979 وبعده، حيث كان صدام حسين يخطط خلال الفترة (1979-2003) على توريث الحكم لأبنائه من بعده، ضمن انتخابات مزورة، كما هي العادة في العالم العربي.

- 3 -

لقد أصبح التداول المحصور جداً للسلطة بين أفراد العائلة الواحدة في التاريخ السياسي العربي في الماضي والحاضر من طبيعة الأنظمة العربية، ولم يعد هذا الإجراء السياسي مستهجناً في العالم العربي. إذ بدأ منذ 14 قرناً، واستمر حتى الآن. وشربته الأجيال المتعاقبة مع حليب الأمهات، وأصبح حقيقة ثابتة، ولكن الزلزال الذي حدث في العراق فجر التاسع من أبريل 2003، هزَّ هذا الثابت من ثوابت العرب المكينة. وقضى على مفهوم الزعامة السياسية الفردية، وقال بزعامة الشعب، لا زعامة الفرد. وبذا، تداول على السلطة خلال السنوات السبع الماضية حكام عديدون في العراق، كان آخرهم نوري المالكي عام 2005، الذي يتشبث الآن بالحكم، ويحاول إعادة مفهوم "الزعيم الفرد" إلى العراق، بعد أن دفع العراق تضحيات غير مسبوقة، لكي يمحو هذا المفهوم من القاموس السياسي العراقي.

فما الثمن الذي سيتم دفعه، من أجل استرداد مفهوم ومنصب "الزعيم الكارثي" في العراق، من خلال ما تتم محاولته الآن؟

- 4 -

فيما لو تمَّت استعادة مفهوم الزعيم الفرد في العراق، فهذا يعني الراحة التامة والرضا والنور، لكل الأنظمة العربية، التي يشعر بعضها بالحرج أمام العالم وأمام شعبها في بعض الأحيان. وبذا، يعيدنا العراق بهذا السلوك السياسي إلى نقطة الصفر من جديد، وكأنك "يا أبو زيد ما غزيت"، كما يقول المثل الشعبي.

هذا بالإضافة إلى أن العراق سيدفع الثمن غالياً من أجل استرداد الزعامة الفردية الأبدية الكريهة، التي تذكرنا دائماً بالعهدين النازي والفاشي من التاريخ الحديث، كما تذكرنا بقائمة طويلة من الخلفاء والسلاطين في العهود الأموية، والعباسية، والعثمانية.

وهنا قائمة بالأثمان- وليس الثمن الواحد- التي سيدفعها العراق للفريقين المرجِحين (الأكراد وإيران) لأي رئيس وزراء عراقي قادم الآن، يقبل بالدفع، مقابل استرداد سلطة "الزعيم" الفرد:

1 - الخضوع لمطالب الأكراد- الذين يملكون 57 مقعداً من أصل 325 مقعداً في مجلس النواب العراقي-  في التعداد العام للسكان في كركوك، كي يتم تسجيل مئات الآلاف من الأكراد المُستجلبين، وبالتالي إجراء استفتاء "صوري" لضم مدينة كركوك إلى الإقليم، والحصول على نسبة من عائدات النفط في البصرة وكركوك، واعتبار نفط الإقليم خالصا للميزانية الكردية، وكذلك منح الإقليم الكردي، حق التفاوض بشأن عقود النفط.

2 - إعطاء إيران امتيازات المستعمرين في القرن التاسع عشر في العراق، ومنها حماية نشاط فرق أمنية عراقية تُدَرَّب وتُمَوَّل من طهران، وتدعى "عصائب أهل الحق"، و"جماعة حزب الله العراق".

3 - عدم تجديد الاتفاقية الأمنية مع أميركا، وعدم الطلب إلى الأميركيين إبقاء أي من جنودهم بعد عام 2011.

4 - التعهد بإبقاء علاقات العراق مع العالم العربي خاضعة لمقياس علاقات العرب مع الإيرانيين.

5 - عزل "حوزة النجف الأشرف"، وتهميشها، وجعل دورها "رعوياً واجتماعياً" بحيث لا تتدخل في السياسة العراقية، أو السياسة الخارجية.

6 - تهميش "المجلس الإسلامي الأعلى"، و"حزب الدعوة"، والبورجوازية الدينية، والعائلات الدينية.

7 - الإبقاء على الواردات الإيرانية الى العراق من جميع الأصناف، والمرشحة لأن تبلغ هذا العام 9 مليارات دولار. وعدم السماح بإدخال بضائع منافسة.

- 5 -

وهذه المطالب من الأكراد والإيرانيين- إضافة إلى مطالب أخرى من دول أخرى غير معلنة- هي جزء من قائمة الأثمان الباهظة، التي سيُرغم أي حاكم يبحث عن "الزعامة الدائمة" في العراق على دفعها، بينما هو شخصياً لن يدفع شيئاً من جيبه، بل سيكسب ما كسبه صدام وقبله من الخلفاء والسلاطين. وبذا، أصبح الحكم في العراق عبارة عن صفقات، وهبات، ومنح مناصب رئاسية ووزارية، وتنازلات عن مبادئ وحقوق وطنية. مما يعني أن المشروع الوطني العراقي والشراكة الوطنية العراقي أصبحا في خبر كان. ومما يعني أيضاً، أن بلاء حكم "ولاية الفقيه" ليس قاصراً على الداخل الإيراني، ولكنه يُفرِّخُ الآن في العراق، وربما في بلدان عربية أخرى مستقبلاً.

* كاتب أردني