صورهم المعلقة على جدار صالة منزلنا أي بيت العائلة، كانت ترافق سنوات عمري في مراحله المتعددة، خصوصاً مرحلة النقش في الحجر أي مرحلة العمر المبكر، تلك الصور التي رافقت عمرنا والتي كانت مصفوفة على الجدار الرئيسي الذي يستقبل نظر الداخل إلى الصالة من أول نظرة، كانت لشيوخنا أو زعمائُنا كما يسميهم والدي رحمه الله.

Ad

أولاها بحسب موقعها على الحائط تأتي صورة الشيخ عبدالله السالم، ومن ثم صورة الرئيس جمال

عبدالناصر، وبعده صورة الشيخ

عبدالعزيز الرشيد، وبعده صورة الرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك، وآخرهم تأتي صورة جدي وأولاده.

هذه الخلطة ما بين الرؤساء الذين اجتمعت صور لهم على حائط صالتنا كانت هي الدرس الأول الذي علمنا حب واحترام الآخر، فهؤلاء هم الذين ينتمون إلى شعوب مختلفة ما عدا الشيخ عبدالله السالم الذي وحده كان حاكماً للكويت، ومع هذا أشعرنا والدي بالمحبة والاحترام لهم، فكل منهم كان ينتمي إليه بشكل ما، فنحن حين نأتي إلى الدنيا محقونين بدماء الآخر سنجد أنفسنا من دون وعينا مشاركين فيه وهو له حصة فينا، أي أن تلك الدماء المختلطة ستناديك أينما كنت وستجد مقرها فيك ومنفذها عبرك.

لذا حين زرت مدينة اسطنبول من بعد وفاة والدي شعرت أن هذا البلد لي حصة فيه بحكم الدماء المختلطة، والذاكرة المختلطة، والماضي الذي حضر بتلك الصور المصفوفة على ذاك الحائط الذي لم يبق له أي أثر، فقد انطوت مع موت صاحب الجدار، وموت أصحاب تلك الصور وان انبثقت ذاكرتهم في اسطنبول.

فها هو أتاتورك تحضر ذاكرته هنا في تاريخ هذا البلد، وها أنا أسير في سراي دولمه باشا حيث كان يسير ويحلم، ويموت، هنا في ذات المكان.

التاريخ المنعكس على المكان يذكرني في كل لحظة بحيوات كل الذين مروا من هنا ومضوا إلى حضن السراب في هذه الاسطنبول الهائلة، المحاطة بالبحور و»بالسحور» جنية الماء المبهرة، الفائضة في غطرسة الدلال والحلا والجمال، قصيدة سحر الشرق والغرب معاً، المذابة في نكهة خاصة، تهويمة شرقية في طبيعة أوروبية، مغارة علي بابا المقفولة على غرائبية غموضها وسحرها الشرقي الذي أسر الغرب بتعويذة لا فكاك منها، تفضح سرهم وتشهد عليهم الملايين من هذه الأفواج المأسورين بنداء نداهة لا ترحم.

اسطنبول... هذه المكتظة بكل شيء... احتشاد هائل من البشر، ومن الانضغاط السكاني في البيوت والأبراج السكنية كل المرئيات مضغوطة بالكثافة السكانية، وكل الشوارع والطرقات والأزقة والأسواق، وكل ما تراه العين هو هذه الكتل الهائلة من البشر.

فائض غير عادي... يكاد الترامواي يختنق باللي فيه، والكورنيش البحري لا تدري ان كان يسير في البشر أو ان البشر يسيرون فيه... فوق الجسور وتحتها... احتشاد... وفي الأنفاق احتشاد... اختناق في مداخلها ومخارجها.

تتموج الكتل البشرية المتحركة في كل الأمكنة... سيارات الأجرة مكتظة بهم... المطاعم فائضة فيهم... البواخر الماخرة معبأة على آخرها بهم كل ما هو حولي محتشد بالبشر من أتراك وأوروبيين وعرب وجنسيات أخرى... لهجات ولغات وهدير أصوات... ونداءات لا تتوقف... ضجيج وزحام وكل شيء يتحرك... يهرول... يركض يبحث عن ضالة أو شيء ما... احساس غريب ينتابني، تذكرت يوم كنت في العمرة وفي ليلة القدر وانحشرت في وسط مليونين من البشر المعتمرين... يا الله كأنه يوم النفير... كان هذا هو شعوري في وسط هذه المرئيات المحتشدة في عالم اسطنبول التي ربما لم أحسن اختيار الوقت المناسب للمجيء إليها... وربما كان هذا التوقيت هو أكثر فصولها ازدحاما... أو ان هذه الاسطنبول «التقمت» التاريخ والدنيا ومن فيها... كلها قد التهمت في بطن الحوت... فكيف يكون لي حصة فيها؟