«الأدبُ الرسمي» مُصطلحٌ عادة ما كنا نُطلقه على النشاط الأدبي الذي يخرج إلى الناس تحت إشراف الدولة. الدولة ذات التوجه العقائدي بشكل خاص. كان هناك أدبٌ رسمي في الدولة الشيوعية، والدولة النازية، والدولة الدينية، والدولة القومية... إلخ. وما مِن أدب رسمي في الدولة الديمقراطية الحديثة، لكنّي أشعر أنّ «الأدب الرسمي» صيغة بليغة الحضور في حياتنا المعاصرة جُملةً، حتى بغياب طبيعة النظام الشمولي في العالم، وفي عالمنا العربي (عالم المحاذير الرقابية والمحرمات!).
هذا الأدبُ الرسمي لم تصطنعه المؤسسةُ الرسمية هذه المرة، بل اصطنعه الأدباءُ الأحرار أنفسهم، بدربة وعناية. الصيغة التي كانت تقترحها وتفرضها الدولة، صارت تقترحها وتفرضها الموضةُ الأدبية والفنية، التي لا تقل سلطاناً عن أوامر السلطةِ في النظام العقائدي. والأديبُ العصري، والفنانُ العصري، هو من يستجيب عن دربةٍ وعناية لمواصفاتِ هذه الموضة، ومن يرتدي زيَّها بلياقةِ مبدع يستحق لقب «حديث»، و»معاصر».هذه الظاهرة شائعةٌ في الغرب، موطن مقترحات الموضة التي يفرضها معياراً. وهي شائعةٌ بالضرورة في العالم الثالث، وعالمنا العربي بصورة لافتة للنظر. لأن حداثةَ العالم الثالث، والعالم العربي بصورة خاصة، لم تستطع إلا أن تكون نسخةً تقريبيةً لحداثة الغرب. وإذا كان عجزُ الإنسان العربي عن أن يولّدَ صيغةً لحياته، من تقاطع الموروث مع الحداثة الوافدة، عجزاً مشروعاً، يبدو لي أن عجزَ المثقف والفنان العربي عن أن يولّدَ «أنا» أصيلة ومتوازنة جريمة ذات مخاطر.كان الشاعر الفرنسي ملارميه فريداً، في توجهه إلى الفن الشعري الذي تشكلُ فيه اللغة وأصواتها، وضبابيتها، محراباً مقدساً، ثم سرعان ما صارت فرادتُه موضةً بين المحيطين به، والآتين بعده. رامبو هو الآخر كان صوتاً فريداً. ولابد أنه سيتحرّج كثيراً لو رأى النزعة الرامبوية التي ستشيع بعده. وكذلك الأمر مع نقاد فريدين في نباهتهم، ومع فنانين كبار. والمواهب النقدية في حقل الأدب والفن لا تشذّ عن هذا السياق. لأن الناقدَ النظري النابه إنما يولّد موقفه النظري من تلاقح أهوائه الداخلية مع العلم انه لا يشبه رجل المختبرات في العلم الخالص، بل هو أديب وفنان، في جزء كبير منه. ومحاكاته، كمحاكاة الشاعر، مستحيلة. وإذا حدثت فمضحكة! لأن أحداً لا يملك، بالطبيعة، أن يحاكي أهواء أحد سواه.التمردُ والرفض صيغةٌ أُمليتْ على الستينيين، بفعل ظروف عامة. أنهت الفرادة الداخلية، وسرعان ما تحولت إلى موضة. ولم تفلت من أسرها إلا أصواتٌ معدودة، غمرها التعتيمُ الإعلامي حينئذ. وهذه الأصوات المعدودة هي المتمردة والرافضة عن حق، لأنها رفضت الموضة وتمرّدت عليها. اقترح شاعر نابه أن يفلت من الوزن الشعري حين يشاء، ويكتب نصاً أطلق عليه «قصيدة نثر». الموهبة الشعرية ذات الفرادة ترحّب بكل اجتهاد. ولكن لا يعنيها شخصياً. في حين تتلقّف المواهب الضعيفة المقترحَ، وتحيله إلى موضة. ولكي تملأ فراغها تمنح الموضةَ لمسةَ قداسة، وتجعلها ضرورة. ولا تتردد، في العالم العربي وحده، من إقامة المؤتمرات، ذات السمة الحزبية، باسمها.ظهرت «البنيوية» من عبقرية فريدة في حقل علم الأجناس. وشاءت أن تطبقها على الشعر والأدب، ولكن المواهب الضعيفة المتربصة سرعان ما تلقفتها، وتحولت بين يديها إلى موضة. هاجرت، شأن الموضات، عبر القارات، وعشّشت في الجامعات الأميركية. حكاية «التفكيكية» لا تختلف كثيراً. أخرجها فيلسوف فرنسي من حقل علم الأصوات، أو اللغة. وشاءها منهجاً لقراءة النص. فطربت مواهب النقد الضعيفة. ولكي تستسيغها، غفلت عن فرادة مبدعها، وحولتها إلى ديانة ترطن بآياتها في كل مجلس.ظاهرةُ الموضة غربية بالتأكيد. في العالم العربي سُلخَ عنها جلدُها الغربي، ومُنحت جلداً عربياً داهمته الصفرةُ، بحكم قشريته، وعدم التحامه بالجسد الحي الذي ينبض وراءه. فبدت عرَضاً مرضياً مُميتاً.معظمُ الظواهر الإبداعية تنطوي على فرادة مُبدعها، ولكنها ما ان تتحول إلى موضة حتى تكشف عن المواهب الضعيفة السائدة، وكأنها معيار جديد تملكُ فيه أن تزنَ الموهبةَ ذات الفرادة، عن الموهبة التي لا تستطيع إلا أن تكون رقماً في كادر حزبي، يرطنُ بما يُملى عليه.
توابل - ثقافات
عن طبيعة الادب الرسمي
25-11-2010