هذا العام الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة هو بامتياز عام الفقد الأكبر. رحل فيه عن عالمنا مفكرون ربما لا تكفي مقالة قصيرة لتعداد آثارهم ومناقبهم. من المشرق إلى المغرب تساقطت أوراق فكرية وأدبية ودينية واقتصادية وفنية عن شجرة حياتنا، وبقي عطر أعمالهم ورحيق تراثهم الفكري يذكرنا أبداً بأن المثمرين لا يتجاهلهم التاريخ ولا يمحو أثرهم النسيان. هنا في الكويت تركنا الأديب الشاعر أحمد السقاف والمفكر التنويري أحمد البغدادي والاقتصادي وائل الصقر والفنان الكبير غانم الصالح، بعد أن تركوا بصماتهم على جوانب الحياة التي اقتسمناها معهم. فقدنا غازي القصيبي الشاعر والكاتب الذي أرق أعداء الكويت وهو يواجههم في "عين العاصفة". فقدنا في لبنان المفكر الشيعي الطليعي محمد حسين فضل الله الذي كان تقدمياً في فكره مواجهاً مخالفيه بصلابة واقتدار. فقدنا المفكر أركون وحامد أبوزيد، وفي المغرب فقدنا الطاهر وطار صاحب اللاز الروائي الذي عشنا مع أعماله حتى اقترب لنا المغرب واختصر المسافة الجغرافية التي كادت تبعدنا عنه، وفي المغرب أيضاً فقدنا صوتاً عقلياً مهماً ممثلاً في المفكر محمد عابد الجابري، وفقدنا فؤاد زكريا صاحب التفكير العلمي الذي نرى في الكويت أن لنا فيه أكثر مما لبلده مصر فيه، الرجل الذي قدم إلى الثقافة العربية والكويتية ولنا نحن الشباب في ذلك الوقت منهاجاً أسس ثقافتنا وخدم منتجنا الثقافي، سواء في الجامعة أو عبر الإصدارات الرائعة في عالم المعرفة.

Ad

فقد كوكبة كهذه في عام واحد ليس فقداً هيناً، والملاحظ أن هؤلاء المفكرين كانت لهم خطواتهم الواثقة في تأصيل الفكر وإحياء صوت العقل المغيب تحت سطوة التاريخ ومحاولة إخراجه من أحادية القراءة التي كرسها الفكر الرجعي الذي ناصبهم العداء فهجّر بعضهم إلى أصقاع الحرية الباردة وسجن بعضهم وكفّر البعض الآخر لدرجة التفريق بينه وبين زوجته.

ليس من السهل صناعة عقل مفكر يحمل مشروعاً تنويرياً متكاملاً في عالم يضج بألوان التخلف السياسي والثقافي، وتطغى المادية الاستهلاكية والفكر السلفي على أطياف حياته، في عالم مضطرب سياسياً واقتصادياً وثقافياً والإضاءات القليلة فيه تكاد تصارع تيارات لا حصر لها، وتتقي طعنات لا تستطيع تحديد وجهتها. وخروج هذه الأسماء من حياتنا دفعة هو بلا شك فقد ليس من اليسير تعويضه.

التركة الثقافية التي خلفتها لنا الأسماء التي ذكرتها، والأسماء التي نسيتها، دون قصد بالتأكيد، هي أرضنا الصلبة التي نحلم بأجيال تقف عليها، جاعلة من تلك الأسماء قدوتها لبناء عالم عربي يواكب تطورات العالم الثاني على الأقل، ولا نقول العالم الأول. ولولا ذلك الحلم لاستحالت حياتنا إلى جحيم.

• الرابطة ولعبة الكراسي

تذكرني انتخابات رابطة الأدباء في الكويت كلما تم إعلانها بلعبة الكراسي الموسيقية التي كنا نلعبها صغاراً. هي ذات الأسماء تتحرك حول عدد محدد من الكراسي، وتستمر اللعبة بذات الأسماء ونفس عدد الكراسي حتى يمل الجميع من اللعبة. كل عام أسماء تتكرر تذهب وتعود دون إنجازات سوى محاضرة فقيرة يوم الأربعاء، ومجلة رغم عمرها الطويل لم تضع أصبعاً ولا أقول قدماً على خارطة المجلات الثقافية العربية. هناك بالتأكيد خلل ما ليس في الأسماء التي نحترمها كزملاء تربطنا بهم علاقة محبة، ولكن بالخط العريض لجدوى المشروع الثقافي الذي تتبناه الرابطة. وإذا من نصيحة نقدمها إليهم أقول: امنحوا شبابكم فرصة حقيقية للعمل، واتركوا لهم مجالاً يتحركون به، فهم بالتأكيد يمتلكون القدرة على تقديم إبداع مغاير.