صفحة 18
![د. نجمة إدريس](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1511191571908366400/1511191591000/1280x960.jpg)
بيد أن المشهد الآني حول ما يدور من حراك في مصر، قد يدعو المتأمل إلى استرجاع دور الشعر العربي المصري على وجه الخصوص، واستشعار مدى فاعلية خطابه وهو يتشكل في أتون الحدث السياسي ويتلظى بناره ودخانه. ولعل أبعد الأمثلة على ذلك تعود بنا ليس إلى المتنبي الذي كان أول من أعلن أنْ: نامت نواطيرُ مصر عن ثعالبها / فقد بَشِمْنَ وما تفنى العناقيد، فذلك عهد موغل في القدم، وإنما إلى عهد محمود سامي البارودي (1839م – 1904م) الذي كان شعره خير سجل لأحداث الثورة العرابية ومساهمته فيها شخصياً حين كان وزيراً للحربية.وقد كان البارودي ببسالته، وفروسيته الأخلاقية، وحبه لمصر ورغبته في تحررها من وصاية الإنكليز وخنوع الخديو، مشروعاً شعرياً قائماً بذاته، وقصة إنسانية مؤثرة عن التضحية والثبات على المبدأ. وقد دفع البارودي أثماناً باهظة مقابل مواقفه البطولية ونقاء سريرته وحسه الإنساني والوجداني الرفيع، إذ كان جزاؤه بعد إفشال الثورة العرابية بمعونة الإنكليز، تجريده من مناصبه العسكرية وممتلكاته وأمواله ونفيه نفياً مؤبداً إلى جزيرة سيلان، إلى أن صدر العفو الملكي عنه في عهد الخديو عباس بعد سبعة عشر عاماً من السجن، وبعد أن لم يبقَ له من العمر والعافية ما يكفي للاستمتاع بالحرية والحياة. ولكن بقي شعره الخالد موثقاً أميناً ليس لحياة شاعر مناضل فقط، وإنما سجل لأمة كانت تتعلم دروس المقاومة وتحلم بالحرية.أما أحمد شوقي (1868م – 1932م) فرغم ارتباطه بالقصر في مقتبل حياته، فإنه بسبب تحول ميول الإنكليز وتذبذب ولاءاتهم للحكام الأتراك، وجد شوقي نفسه ليس خارج القصر فقط، وإنما كارهاً للإنكليز ومنتقداً لسياساتهم، الأمر الذي انتهى به منفياً إلى إسبانيا. وبعد عودته إلى مصر فتح عينيه على التململ الشعبي والثورات المتعاقبة، فثارت في نفسه المشاعر الخامدة بعد أن رأى نفسه واحداً من الشعب، فغنى له ولمناضليه ورموزه الثورية أجمل القصائد وأصدقها. ولعل ضيق المقام ينقلنا مباشرة إلى الشاعر أمل دنقل (1940م – 1983م)، الشاعر الصعلوك الذي عاش على كفاف الحياة، متأملاً بعينه الناقدة مشاهد الشظف والفساد، ورائحة الهزائم، وشقاء الإنسان المبتلى برزقه وكرامته وحريته إلى أن مات. ولكن بقيت قصائده مثل «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، و»لا تصالح» و»من مذكرات المتنبي» وغيرها تحكي هذه الحكايات المؤثرة وتعيدها.