كل الذين فصَّلوا تركيا، في عهد أردوغان، على مقاساتهم الخاصة أصيبوا الآن بأكثر من خيبة أمل، وهم يرون أن القصور التي بنوها من الرمال غدت تنهار تباعاً، وثبت أن هذه الدولة مثلها مثل كل دول الكرة الأرضية تبني علاقاتها وتضع سياساتها الخارجية على أساس مصالحها الخاصة، فالدول ليست جمعيات خيرية تعمل من أجل وجه الله عز وجل، ولهذا وعندما أعلن وزير الخارجية التركي "تصفير" عداد بلاده فإنه قصد أن هذه المجموعة التي غدت تحكم واحدة من أكبر وأهم دول المنطقة تريد الاتجاه إلى مجالها الحيوي في الشرق الأوسط، ووقف اللهاث وراء عضوية الاتحاد الأوروبي.

Ad

اعتقد كثيرون أن تركيا في عهد هذه المجموعة سترتد على مصطفى كمال (أتاتورك) وعلمانيته وإصلاحاته واستبداله الطربوش العثماني بالقبعة الأوروبية، وأنها ستعود إلى عثمانيتها، وقد ذهبت أحلام اليقظة ببعض هؤلاء إلى أن الخلافة العثمانية عائدة لا محالة، وأن زوال دولة "الكيان الصهيوني" بات مؤكداً وفي فترة قريبة، وأن أمجاد محمد الفاتح ستعود، وأن حوافر خيول الفرسان المسلمين ستطأ قلب أوروبا كما وطأته في السابق.

لم يدرك هؤلاء أن أردوغان ومجموعته بمجرد وصولهم إلى السلطة بادروا إلى "تصفير" عداد بلادهم لتجديد انطلاقتها في المنطقة وتجديد مسيرتها الاقتصادية والسياسية، وأنهم سيحافظون على علاقات حسنة مع إيران لأنهم متفاهمون معها على أساس المصالح المشتركة والمكاسب الاقتصادية المتبادلة، وأنهم بادروا إلى بدء عهد جديد مع سورية بعدما توقفت في عهد رئيسها السابق حافظ الأسد عن التدخل في شؤون بلادهم الداخلية، وطرد عبدالله أوجلان من بلاده شر طردة، وأنهم بعد انحياز سابق كامل إلى إسرائيل بالنسبة إلى صراع الشرق الأوسط أرادوا سياسة متوازنة تجاه هذا الصراع بين الإسرائيليين من جهة والعرب والفلسطينيين من جهة أخرى.

ولهذا فقد بادر أردوغان بمجرد اهتزاز المعادلات في هذه المنطقة تحت ضربات ظاهرة الثورات الشبابية إلى "تصفير" العداد مرة أخرى، ولذلك "ولأن الأقربين أولى بالمعروف" فقد بدأ بسورية حيث انقلب عليها بين عشية وضحاها، وقال مما قاله في مجال تهديدها بعد السكوت عما كان يجري بأن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه "حماة" جديدة، وكان قبل ذلك قد قلب ظهر المجن لـ"الأخ قائد الثورة" وطالبه بالرحيل الفوري وتَرْك مصير "الجماهيرية العظمى" للثوار الزاحفين من الشرق تحت غطاء الغارات الجوية الأطلسية.

إن تركيا في عهد أردوغان ومجموعته ستبادر إلى "تصفير" العداد كلما استدعت مصالحها ذلك، ولهذا فإنه غير مستبعد أن يأتي اليوم الذي يشهد فيه العراق وتشهد معه المنطقة صراعاً عثمانياً-صفوياً جديداً، خاصة وأن إيران جادة في أن تلعب الدور الذي كانت تلعبه الإمبراطورية الفارسية في هذه المنطقة قبل أن تظهر القوة الإسلامية وتغير كل المعادلات فيها، فالدولة التركية لها مصالح حيوية في بلاد الرافدين وفي منطقة الخليج وفي المنطقة العربية كلها، ولهذا فإذا تعرضت هذه المصالح لأي تهديد إيراني فإن الأردوغانيين سيلجأون إلى "تصفير" العداد مجدداً، وقد يضطرون حتى إلى المواجهة العسكرية.

لقد كانت لتركيا أردوغان حسابات بالنسبة إلى سورية هي التي أملت التآخي والتقارب ودفن الماضي بكل خلافاته وأحقاده، أما وقد حدث هذا الذي يحدث فإن الأردوغانيين، الذين تهمهم جداً معرفة طبيعة من سيحكم الجارة الجنوبية، ويهمهم قبل ذلك ألا يفاجأوا بموجات من النازحين واللاجئين خصوصاً في مناطق التماس الحدودية الشرقية والمتداخلة من حيث السكان الأكراد، قد بادروا هرولة إلى "تصفير" عدادهم مرة أخرى وإطلاق التهديدات التي أطلقها أردوغان ضد زميله في دمشق إن وصلت الأمور في بلاده إلى "حماة" جديدة.