اليابان والدراما الأخلاقية النووية
من المرجح الآن أن توجه أزمة فوكوشيما إلى جاذبية الطاقة النووية ضربة في مقتل، على نحو مماثل لحادثة محطة ثري مايل آيلاند في بنسلفانيا في عام 1979، ناهيك عن انصهار مفاعل تشرنوبيل في عام 1986، ولكن إذا كان بوسعنا أن نسترشد بالتداعيات التي أعقبت تلك الحوادث، فإن المدافعين عن الطاقة النووية سوف يعودون إلى الظهور في نهاية المطاف.
إن المتاعب التي تواجهها محطة الطاقة النووية في فوكوشيما- ومفاعلات أخرى- في شمال شرق اليابان كانت بمنزلة ضربة قوية تلقتها صناعة الطاقة النووية على مستوى العالم، التي تشكل منظمة قوية تتألف من أقل من عشر شركات مملوكة للدولة أو موجهة من قِبَل الدولة، وكانت هذه المنظمة تقرع طبول نهضة في مجال الطاقة النووية.ولكن المخاطر التي تواجهها المفاعلات المقامة على الساحل مثل فوكوشيما والمتمثلة في الكوارث الطبيعية باتت معروفة للجميع، بل لقد بات من الواضح قبل ستة أعوام، عندما أغرق تسونامي المحيط الهندي في ديسمبر 2004 ثاني أكبر مجمع نووي في الهند، الأمر الذي أدى إلى إغلاق محطة توليد الطاقة في مدراس.
إن العديد من محطات توليد الطاقة النووية تقع على السواحل، وذلك لأن تشغيلها يعتمد على المياه إلى حد كبير، ورغم ذلك فإن الكوارث الطبيعية مثل العواصف والأعاصير وموجات المد العارمة (التسونامي) أصبحت أكثر شيوعا، وذلك بسبب تغير المناخ، وهو ما من شأنه أن يتسبب أيضاً في ارتفاع مستويات المحيطات، ويزيد بالتالي من تعريض المفاعلات النووية المقامة على الساحل للمخاطر.على سبيل المثال، لا ترتفع العديد من محطات الطاقة النووية الواقعة على الساحل البريطاني عن مستوى سطح البحر سوى بضعة أمتار، وفي عام 1992 تسبب إعصار أندرو في إلحاق أضرار كبيرة بمحطة الطاقة النووية «تركي بوينت» الواقعة على خليج بيسكين في فلوريدا، ولكن من حسن الحظ أن الأضرار لم تطل أي أنظمة حرجة.إن كل مولدات الطاقة، بما في ذلك المحطات العاملة بحرق الفحم والغاز، تتطلب كماً كبيراً من الموارد المائية، ولكن الطاقة النووية تحتاج إلى كميات أكبر من المياه، وتنتج مفاعلات الماء الخفيف مثل تلك في فوكوشيما والتي تستخدم المياه كمبرد أولي، أغلب الطاقة النووية على مستوى العالم، والواقع أن الكميات الضخمة من المياه المحلية التي تستهلكها مفاعلات الماء الخفيف تتحول إلى مياه ساخنة يتم ضخها إلى الأنهار والبحيرات والمحيطات مرة أخرى.ولأن المفاعلات المقامة في المناطق الداخلية تفرض إجهاداً خطيراً على موارد المياه العذبة المحلية- بما في ذلك الضرر الأعظم الذي يلحق بالحياة النباتية والسمكية- فإن البلدان التي تعاني نقصا في الموارد ولكنها لا تفتقر إلى سواحل بحرية تحاول البحث عن مواقع مناسبة على سواحلها البحرية، ولكن سواء كانت مقامة في منطقة داخلية أو على الساحل، فإن محطات الطاقة النووية تُصبِح عُرضة للتأثيرات المحتملة لتغير المناخ.ومع ارتفاع متوسط درجات الحرارة ومستويات سطح البحر بفعل الانحباس الحراري العالمي، فإن المفاعلات المقامة في المناطق الداخلية سوف تساهم على نحو متزايد في نقص المياه، وسوف تتأثر به، ففي أثناء الموجة الحارة التي سجلت رقماً قياسياً في فرنسا في عام 2003، اضطر القائمون على سبعة عشر مفاعلاً نووياً تجارياً إلى الحد من نطاق عملها أو إيقافها بسبب الارتفاع السريع في درجات حرارة الأنهار والبحيرات، وفي يوليو من عام 2006 أغلِق مفاعل سانتا ماريا دي جارونيا في إسبانيا لمدة أسبوع بعد تسجيل درجات حرارة عالية في نهر إيبرو.من عجيب المفارقات هنا إذن أن الظروف التي جعلت من المستحيل على الصناعة النووية تسليم الطاقة الكاملة إلى أوروبا في عام 2003 ثم في عام 2006 هي ذاتها التي دفعت الطلب على الطاقة الكهربية إلى ذروته، وذلك بسبب زيادة استخدام أجهزة تكييف الهواء. بل إن شركة كهرباء فرنسا، التي تدير 58 مفاعلا- أغلبها مقامة على أنهار حساسة بيئياً مثل نهل اللوار- اضطرت في أثناء موجة الحر في عام 2003 إلى شراء الطاقة من دول مجاورة في السوق الفورية الأوروبية، وانتهت شركة كهرباء فرنسا، التي تصدر الطاقة عادة، إلى دفع عشرة أضعاف سعر الطاقة المحلية، وتكبد تكاليف مالية بلغت 300 مليون يورو.على نحو مماثل، ورغم أن موجة الحر التي ضربت أوروبا في عام 2006 كانت أقل حِدة، أجبرت مشاكل المياه والحرارة ألمانيا وإسبانيا وفرنسا على وقف العمل في بعض محطات الطاقة النووية والحد من عمل محطات أخرى، ومما يسلط الضوء على نقاط الضعف المحيطة بالطاقة النووية فيما يتصل بالتغيرات البيئية أو أنماط الطقس المتطرفة، أن مشغلي المحطات في أوروبا الغربية حصلوا أيضاً في عام 2006 على إعفاءات من الأنظمة التي كان من المفترض أن تمنعهم من إطلاق مياه بالغة السخونة إلى الأنظمة البيئية الطبيعية، الأمر الذي أثر في مصائد الأسماك.وتحب فرنسا أن تعرض صناعة الطاقة النووية، التي توفر 78% من الطاقة الكهربائية التي تستهلكها البلاد، في هيئة جذابة، ولكن هذه الصناعة النووية تستهلك كميات هائلة من المياه، حتى أن شركة كهرباء فرنسا تسحب ما يصل إلى 19 مليار متر مكعب من المياه سنوياً من الأنهار والبحيرات، أي ما يقرب من نصف إجمالي استهلاك فرنسا من المياه العذبة، والواقع أن نُدرة المياه العذبة باتت تشكل تحدياً دولياً متناميا، وأصبحت الأغلبية العظمى من بلدان العالم في موقف لا يسمح لها بالموافقة على أنظمة الطاقة هذه المقامة في المناطق الداخلية من البلاد، والتي تستهلك كميات ضخمة من المياه.ولا تواجه محطات الطاقة النووية الواقعة على شاطئ البحر مثل هذه المشاكل في الظروف المناخية الحارة، وذلك لأن درجات حرارة مياه المحيطات لا ترتفع بالقدر أو بالسرعة التي ترتفع بها درجات حرارة الأنهار والبحيرات، ولأن هذه المحطات تعتمد على مياه البحر فإنها لا تساهم في ندرة المياه العذبة، ولكن كما أثبتت مفاعلات اليابان فإن محطات الطاقة النووية الساحلية تواجه تهديدات أشد خطورة. وعندما ضرب تسونامي المحيط الهندي السواحل الهندية، تمكن القائمون على مفاعل مدراس من الإبقاء على قلب المفاعل في حالة إغلاق آمن لأن أنظمة الكهرباء كانت مقامة على أرض مرتفعة عن مستوى الأرض التي أقيم عليها المفاعل نفسه، وعلى النقيض من مفاعلات فوكوشيما، التي تحملت تأثيراً مباشرا، فإن مفاعل مدراس كان بعيداً عن مركز الزلزال الذي أدى إلى التسونامي.والمعضلة المركزية المرتبطة بالطاقة النووية في عالم يعاني ضائقة مائية متنامية هي أنها مسرفة في استهلاك المياه، ولكنها رغم ذلك عُرضة لمخاطر متصلة بالمياه، وبعد مرور عقود منذ زعم لويس ل. شتراوس، رئيس هيئة الطاقة الذرية في الولايات المتحدة، أن الطاقة النووية «سوف تصبح أرخص من أن نتقاضى رسوماً لها»، فإن صناعة الطاقة النووية في كل مكان لا تزال تعتمد في بقائها على إعانات الدعم الحكومية السخية.وفي حين تقلصت جاذبية الطاقة النووية إلى حد كبير في الغرب، فإن هذه الجاذبية بدأت تنمو بين ما يطلق عليهم «القادمين النوويين الجدد»، وهو ما يحمل في طياته تحديات جديدة، بما في ذلك المخاوف بشأن انتشار الأسلحة النووية، فضلاً عن ذلك، ولأن ما يقرب من 40% من سكان العالم يعيشون في نطاق مئة كيلومتر من السواحل، فإن العثور على مواقع مناسبة على سواحل البحر للبدء في إنشاء برامج للطاقة النووية أو التوسع فيها لم يعد بالأمر السهل.ومن المرجح الآن أن توجه أزمة فوكوشيما إلى جاذبية الطاقة النووية ضربة في مقتل، على نحو مماثل لحادثة محطة ثري مايل آيلاند في بنسلفانيا في عام 1979، ناهيك عن انصهار مفاعل تشرنوبيل في عام 1986، ولكن إذا كان بوسعنا أن نسترشد بالتداعيات التي أعقبت تلك الحوادث، فإن المدافعين عن الطاقة النووية سوف يعودون إلى الظهور في نهاية المطاف.* براهما تشيلاني | Brahma Chellaney ، أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات في نيودلهي، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين، ومؤلف تسعة كتب، منها "الطاغوت الآسيوي"، و"المياه: ساحة المعركة الجديدة في آسيا"، و"المياه، والسلام، والحرب: مواجهة أزمة المياه العالمية".«بروجيكت سنديكيت، 2016»»بالاتفاق مع «الجريدة»