- 1 -

Ad

قبل عام 2003، وفي عهد صدام حسين، لم يكن العراق يُقيم وزناً كبيراً لارتباطه العربي، وإن كان صدام يتيه على الآخرين بإطلاق بعض العروبيين على العراق "البوابة الشرقية" للأمة العربية، ولكنه رغم هذا، لم يفعل اللازم للحفاظ على هذه "البوابة"، بل كان عامل هدم وعدوان منها، حين قام بالاعتداء على شرقي السعودية والكويت عام 1990، وكاد أن يلتهم الكويت، لولا أن وقف التحالف الدولي بقيادة أميركا في وجهه ودحره. وقبل عام 2003، كان العرب يطلبون ودَّ العراق، ومساعدته، وعونه، ودعمه المادي والسياسي، كل حسب حاجته ومراده.

- 2 -

 وكان العراق يتيه على العرب، ويظهر بمظهر الأخ الأكبر المُعين والمُغيث والداعم والحامي، وكان هذا ينطبق على الكبار قبل الصغار، والأقوياء قبل الضعفاء، والأغنياء قبل الفقراء، بل إن العراق، كان على علاقات متميزة ورفيعة مع أكثر النظم السياسية اختلافاً عنه ومعه، فكانت علاقته مع الملكية الهاشمية في الأردن– مثالاً لا حصراً- أكثر متانة من علاقته مع الجمهوريين المصريين، وحين وقَّع السادات اتفاقية كامب ديفيد، قاد العراق حملة مقاطعة ضد مصر، وعزلها عن الأمة العربية، كما قاد حملة لنقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، ولأول مرة في تاريخ الجامعة، منذ تأسيسها عام 1945.

وتبنى العراق عام 1980 حملة عسكرية وسياسية تاريخية للتصدي للعهد الثيوقراطي الإيراني الخميني، ليمنع تصدير الثورة الإيرانية للخليج والعالم العربي، وقاد حرباً من أطول حروب العرب وأشرسها في التاريخ الحديث، امتدت ثماني سنوات، خسرت فيها إيران مليون جندي وخسر العراق العدد نفسه، إضافة لمبلغ لا يقل عن خمسمئة مليار دولار.

- 3 -

 ورغم شراسة وطول هذه الحرب، فقد ثبت عدم جدواها، وفشلت محاولة حصر الثورة الإيرانية في أرضها.

فها هي روح وأهداف الثورة الإيرانية تنتشر في العراق من جديد، إضافة إلى لبنان، وفلسطين.

وها هو الإسلام السياسي، الذي نهض بعد 1979، بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، ينتشر ويشتد عوده في العالم العربي. وها هي شوارع معظم العواصم العربية، تتحول إلى شوارع إيرانية بالمحجبات، والمنقبات، وصاحبات (الملايات) والعباءات السوداء القريبة من الشادور الإيراني.

وها هي إيران ترفع أخيراً العلم الإيراني فوق الجزر الإماراتية الثلاث، إشارة إلى استيلائها، وضمها النهائي إلى إيران. وها هو أحمدي نجاد يزور لبنان، ويزور جنوبه، ويخطب فيه، ويلقى من الترحيب والحفاوة ما لا يلقاه في إيران نفسها، ويقف على الحدود اللبنانية– الإسرائيلية مهدداً ومتوعداً إسرائيل وأميركا والغرب، كما لم يفعل كمال جنبلاط وعبدالناصر من قبله. وها هي إيران تقترب من صنع قنبلتها النووية (المهدي المنتظر)، التي بها ستصبح "القوة العظمى"، في الشرق الأوسط.

وها هو "حزب الله" (حزبها) يحكم لبنان، ويضبطه من المطار حتى آخر نقطة في الشمال والجنوب اللبناني، وتقف الأحزاب السياسية، والدولة اللبنانية، والحكومة اللبنانية، متفرجين، مذهولين، مما يرون، ويسمعون.

وها هي سورية (الحليف الإستراتيجي لإيران) تعود لتحكم لبنان من جديد، ليس بالبسطار العسكري، كما كانت الحال قبل 2005، ولكن بالعصا السياسية الآن، وها هي إيران تملأ جيوب حامد كرزاي (الحليف الأميركي) وتابعيه في أفغانستان كل يوم، بالريال الإيراني، وبالدولار الأميركي. ومعظم المؤشرات السياسية في العالم العربي تشير إلى "إيرانية" الحياة العربية دينياً ومظهرياً، رغم عدم اعترافنا بذلك، ونقدنا لإيران، وقادتها، صبحاً ومساءً.

- 4 -

اليوم، وبعد 2003 يعود العراق إلى عهد الطفولة السياسية، التي لا تمكنه من الأكل، أو الشرب، أو السير، أو ممارسة الحياة إلا بمساعد الآخرين، فبعد أن كان العراق هو العصا التي يتكئ عليها العرب. أصبح العرب هم العصا والعراق هو العاجز، إما لطفولته، أو لكبر سنه، وضعفه.

ولا يحسبن أحدٌ أني بهذا "الحكي" أبجّلُ عهد الطاغية صدام، وأحطُّ من قدر "العراق الجديد"، فأنا أنكرُ هذا أشدَ الإنكار، وأنفيه أشدَ النفي، ولكني أريد أن أبيّن هنا، أن "العراق الجديد"، لم تكن تنقصه الآن غير القيادة الحكيمة المفتقدة، والتي كان من الطبيعي أن يفتقدها العراق الآن، وهي التي قضت وانتهت، يوم أن حكمت العسكرتاريا العراق بدءاً من ثورة 1958، وحتى فجر التاسع من إبريل 2003.

فالعراق هو العراق، لم يتغير، ولم يتبدل الآن، عما كان عليه قبل 2003، ودجلة والفرات، يجريان في مجرييهما كالعادة، صبحاً ومساءً، وبغداد ما زالت تذكر عهد التنوير في عصر الرشيد والمأمون... والكوفة والبصرة وغيرهما من حواضر الثقافة العربية ما زالتا هناك، تستعدان لإنتاج المزيد من الثقافة.

ما تغير في العراق هم الرجال، وهي القيادة، وقد ابتُلي العراق بشتى أنواع الدكتاتوريين، الذين لبسوا مسوح الديمقراطية الكاذبة منذ 1958 إلى اليوم، بل كانوا كذلك قبل هذا التاريخ، وفي العهد الملكي كذلك.

- 5 -

ما حاجة العراق الآن إلى العرب؟

وما أهمية العرب الآن للعراق؟

ولماذا كل هذا التكالب العراقي على فتات الموائد العربية؟

هل لأن العراق الآن ضعيف جداً، ويرى أن أضعف العرب أقوى منه، ولذلك يلجأ إليهم طلباً للعون والغوث، كما يفعل مع بلد كالأردن مثلاً، في طلب الدعم لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة؟! أما العراق الغني والكبير والقادر، من دون رجال سياسته الخائبة والخائبين، فهو:

1 - أغنى دولة عربية بثرواته البترولية بعد السعودية.

2 - أقل الدول العربية عدداً بالسكان، قياساً لثرواته الطبيعية، ودخله القومي السنوي، وهذا مؤشر نهضوي مهم.

3 - أغنى الدول العربية مائياً بعد السودان وربما قبله، وبذا، يمكن له أن يكون بستان العرب، وحقلهم، ومزرعتهم، ومن ثم رغيفهم، وسلة فاكهتهم.

4 - أكثر الدول العربية قراءةً للكتاب العربي والأجنبي، وأكثر القراء العرب هم من العراق، وهو من أكثر الدول العربية إنتاجاً للثقافة بشتى ألوانها، وهو كما كان في العصور الخوالي يحتضن أكثر من 80 في المئة من إبداعات الثقافة العربية.

5 - ولو لم تتأدلج جامعاته ومعاهده بعد 1963، لكانت في مقدمة الجامعات والمعاهد في الشرق الأوسط في مختلف التخصصات، ولكن الأدلجة الحزبية والسياسية التي ابتُليت بها الجامعات والمعاهد العراقية حطَّت من مستواها العلمي. فلماذا يريد العراق بعد كل هذا الساعد العربي المشلول؟

(وفي الأسبوع القادم بإذن الله نجيب عن السؤال الثاني: ما أهمية الساعد الإيراني للعراق؟).

* كاتب أردني