حيوان سياسي
الإنسان حيوان ناطق كرمه الله سبحانه وتعالى بالقدرة على الكلام الذي يتواصل به مع بقية بني جنسه، ويمكنه من التعبير عن أفكاره ليطرحها ويتدارسها مع أقرانه، وهي العملية التي طورت الإنسان وشكلت على مر العصور الأخلاقيات وتنظيم العلاقة بين بني آدم، وحددت توصيف أعمال الخير والشر، بينما بقيت بقية الحيوانات الأخرى تتحكم فيها وتحركها غريزتا الأكل والتكاثر فقط لا غير، ولكننا نرى من حولنا نماذج لحيوانات جديدة يمكن أن نطلق عليها أو نصفها بـ»الحيوانات السياسية».
فالحيوان السياسي هو ناطق مثل بقية بني البشر، ولكنه وبخلاف نظرائه يعيش بغريزة واحدة تحركه كما تشتهي، وهي عبارة عن عصارة المكاسب الذاتية، والمحافظة على كرسيه، والتربص بمواقع الحكم والنفوذ الأعلى ليقتنصها دون أي اعتبارات أخلاقية أو مبادئ تحفظ مصالح العامة، وهذا النموذج الحيواني متفش في العالم الثالث بشكل عام، وفي عالمنا العربي بشكل خاص، وحيوان السياسة لا يترك كرسيه حتى لو ضاعت مصالح البلاد والعباد ودمرت بلده، وتحالفاته تتغيير بين لحظة وأخرى، فهو في الصباح زعيم السيادة والاستقلال والحرية وسيد «الميكرفونات الثورية»، وفي المساء عميل صغير لمعلمه في استخبارات السحل التوارثية، الذي يديره عن بعد بالريموت كنترول!وحيوان السياسة مستعد لتقديم كل التنازلات لعقد الصفقات من تحت الطاولة، ليظهرها بعد ذلك على أنها مكاسب وطنية يجب الاحتفال بها، وهو غالباً ما يكون نرجسياً، يعتقد أن الجماهير لا يمكنها أن تعيش من دونه، وترتجي طلته البهية وآراءه الألمعية، وهو في الغالب يعتاش على معاناتهم ويبتزهم مقابل حاجاتهم الإنسانية الأساسية، وتلك الحيوانات السياسية تحول أيضاً كل مناحي الحياة إلى لعبة الكسب والخسارة في التنافس على المواقع والمنافع، فلا توجد لهم حياة اجتماعية ولا علاقات إنسانية حقيقية بل هي مجرد ديكور لزوم صورة التسويق الشعبي، لذلك لا يحسون بما يحدث في واقع مجتمعاتهم، وتوجد لديهم صورة خيالية عن بلدانهم تتغير حسب حاجتهم، فعندما يكونون في السلطة وأصحاب القرار فإن الصورة تكون وردية لبلده وجواره، أما إذا ابتعد عن صولجان الحكم فإن تلك الصورة تنقلب إلى اللون الرمادي لجميع أبعاد المشهد من حوله.نموذج الحيوان السياسي في منطقتنا أصبح آفة مدمرة يزداد خرابها وتدميرها لأوطانها، ولكن سبب انتشارها هو شعوب المنطقة التي تعرف في قرارة نفسها نماذج الحيوانات السياسية من حولها وتقود مصيرها، من كثرة تقلب آرائها السياسية وتبديل مواقعها وصفقاتها على حسابها، ولكن تظل الجماهير تصفق لها وتنتخبها وتبرر جرائمها بحجج مختلفة، منها عدم وجود البديل أو مصلحة العصبيات العرقية والمذهبية، ليبقى الحيوان السياسي يقتات على تخاذلها عن مواجهته، وندفع نحن أغلى الأثمان، فمتى ستستجمع شعوبنا شجاعتها لتروض تلك النماذج المتوحشة وتعيدها إلى آدميتها... لننقذ أوطاننا؟ ❊❊❊رحل عن دنيانا الأسبوع الماضي المفكر والأستاذ الجامعي د. أحمد البغدادي بعد حياة عامرة بالعمل الجاد وتقديم الفكر الرصين المجدد لديننا الإسلامي العظيم... المرحوم البغدادي أحد من أعملوا الفكر لتجديد الثقافة والفكر الإسلامي، ومن الذين اجتهدوا لرفعة الدين لا ممن يريدون أن يعتاشوا عليه عبر نقل سالف أفكاره، ورغم أنه عانى كثيراً بسبب من يعتاشون على الدين فإنه بقي ثابتاً حتى وفاته، لذا ستظل كتبه ومقالاته وتلاميذه لينقلوا اجتهاداته وآراءه... فخالص العزاء لأسرة الفقيد ونسأل له الله سبحانه وتعالى الرحمة.