إن إدارة أوروبا التي تتألف من 27 دولة أصبحت تشكل عملية بالغة الصعوبة بالفعل، فالاتحاد الأوروبي، الذي بات يعاني أزمة هوية عميقة، لا يحتاج إلى دول جديدة، بل إلى أفكار جديدة وسرد جديد، أو بعبارة أخرى تغيير نوعي وليس كميا. تُرى هل أصبح العالم على وشك الدخول إلى فترة جديدة من إعادة تنظيم الذات، على غرار ما شهدناه قبل ما يقرب من عشرين عاما؟
في تسعينيات القرن العشرين، كان سقوط الإمبراطورية السوفياتية، وانهيار يوغوسلافيا على نحو وحشي، من الأسباب التي أدت إلى زيادة مذهلة في عدد الدول المستقلة. ولمتابعة الألعاب الأولمبية أو كأس العالم، كان على العالم أن يتعلم كيف يتعرف على الإعلام والأناشيد الوطنية الجديدة.والآن ربما تقترب موجة جديدة من تشرذم الهوية، تمتد عبر إفريقيا وربما أوروبا، فمن المقرر في شهر يناير أن يتم إجراء الاستفتاء على الاستقلال في جنوب السودان، وإذا أجري الاستفتاء فيكاد يكون من المؤكد أن يؤدي إلى تأسيس دولة جديدة في قارة إفريقيا، وهي الأولى منذ تفكك إثيوبيا في عام 1993، وقد تؤدي الانقسامات في الصومال، وكوت ديفوار، بل حتى نيجيريا، إلى ميلاد دول جديدة.لقد ظل العديد من الناس، لعقود طويلة من الزمان، ينددون بالحدود بين بلدان إفريقيا باعتبارها عملاً مصطنعاً وتعسفياً قام به مستعمرون جهلة وهازئون، الأمر الذي ساهم في إحداث سلسلة طويلة من الخصومات القَبَلية، إن لم يكن التطهير العرقي، ولكن لا أحد، خصوصاً في المنظمات الإفريقية، يرغب في إعادة رسم الحدود، وكلما ازداد التوازن هشاشة وعدم استقرار أصبح من المحتم الحفاظ على الوضع الراهن.هل توشك إذن أبواب الجحيم أن تنفتح على إفريقيا، فتتحرر الشياطين التي كان من الواجب أن تُكَبَّل؟ أم أن الوضع الراهن المصطنع ذاته هو الذي أدى إلى اندلاع أعمال العنف المنظم بوتيرة مهلكة؟إن السلوك الوحشي الذي انتهجه النظام السوداني في الخرطوم جعل من تطور البلاد نحو التقسيم أمراً مشروعاً ولا مفر منه، والسؤال الرئيس الآن هو ما إذا كان التقسيم سوف يشكل نموذجاً وسابقة في أماكن أخرى من إفريقيا.ففي كوت ديفوار على سبيل المثال، يستمد الرئيس السابق لوران جباجبو الإلهام من رئيس زيمبابوي المستبد روبرت موغابي، فيتشبث بالسلطة بعد الهزيمة الواضحة التي لحقت به في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ونتيجة لهذا فإن انقسام البلاد على أسس عرقية ودينية جزئياً على طول الخطوط الشمالية والجنوبية لم يعد مستبعدا؛ بل أصبحت احتمالات الانقسام مرجحة على نحو متزايد.والواقع أن هذا الميل نحو تفتيت الهوية ليس مجرد ظاهرة إفريقية، ففي مكان أقرب كثيراً إلى الموقع الذي أكتب فيه هذا المقال، في أوروبا، يؤثر هذا الميل في بلجيكا، تلك الدولة التي تبدو وكأنها عازمة على الحياة في ظل شلل سياسي مطلق كثمن لبقائها. بيد أن هذا الاعتلال الذي تعانيه بلجيكا أرسل موجاته التصادمية إلى كاتالونيا في إسبانيا، حيث أسفرت انتخابات نوفمبر الماضي للبرلمان الإقليمي عن خروج تحالف اليسار الذي كان مهيمناً لمدة سبع سنوات لمصلحة التحالف المؤيد للسيادة المستقلة.والواقع أن الأزمة الاقتصادية تؤثر في كل أجزاء إسبانيا، ولكن مثلهم كمثل أنصار الرابطة الشمالية في إيطاليا، بدأ عدد كبير من أهل كاتالونيا بالمقارنة بين شخصيتهم الجادة الميالة إلى الكد والاجتهاد ونجاحهم النسبي وبين «كسل الإسبان»، ولكن لماذا يتعين عليهم أن يعملوا لمصلحتهم؟ وبالطبع هناك عدد متزايد من الألمان يتحدثون عن بقية أوروبا كما يتحدث أهل كاتالونيا عن الإسبان.لا شك أن أوروبا ليست إفريقيا، حيث يحرك العنف واليأس حالة من التفتت والانقسام. وفي أوروبا اليوم، إذا كان هناك عنف، فهو اقتصادي بطبيعته، ولكن مع استمرار الأزمة الاقتصادية- التي قد تتفاقم سوءا- فقد نشهد تفجر المزيد من النعرات القومية والشعوبية التي قد تترجَم إلى موجة جديدة من التفتت والانقسام.إن إدارة أوروبا التي تتألف من 27 دولة أصبحت تشكل عملية بالغة الصعوبة بالفعل، فالاتحاد الأوروبي، الذي بات يعاني أزمة هوية عميقة، لا يحتاج إلى دول جديدة، بل إلى أفكار جديدة وسرد جديد، أو بعبارة أخرى تغيير نوعي وليس كميا. بطبيعة الحال، قد يكون بوسعنا أن نحلم، كما حلم البعض ذات يوم، بأوروبا «المقسمة إلى مناطق» استناداً إلى نموذج الدولة المدنية في إيطاليا في عصر النهضة.ذات يوم قال عالم الاجتماع الأميركي دانييل بِل إن الدولة أضخم من أن تتأثر بالمشاكل الصغيرة وأقل حجماً من أن تتمكن من التعامل مع المشاكل الكبيرة، ولكن في هذا العصر العالمي، تحولت «الأمة» إلى شكل أكثر قوة من حماية الهوية، تماماً كما تبدو «الدولة» اليوم، في أعقاب أزمة رأسمالية التمويل الغربية، أكثر قوة من «السوق» التي تزعزع استقرارها بسبب تجاوزاتها.وفي الوقت عينه، سنجد أن البحث عن هوية، والذي يؤدي إلى انقسام بعض الدول ويشتتها، يدفع دولاً أخرى إلى تصور آفاق إمبراطورية جديدة، وكل منها يعكس نفس المنطق، فالطبيعة الإمبراطورية للهوية في روسيا، على سبيل المثال، راسخة ومتأصلة إلى حد عميق، وحتى تركيا، التي تشجعت بفضل خواء السلطة في كل مكان، فضلاً عن المقاومة العنيدة من جانب أغلب بلدان الاتحاد الأوروبي لقبول الأتراك في «ناديهم المسيحي»، بدأت تميل إلى اعتناق فكر عثماني جديد، ويبدو أن التقاليد الإمبراطورية لا تتلاشى بالكامل أبدا.ولعل الناس ينظرون ذات يوم إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين باعتباره الاستمرار المنطقي للعقد الأخير من القرن العشرين، وإذا كان الأمر كذلك فإن عصرنا سوف يكون عصراً جديراً بالدراسة، فهي لحظة من الزمن حيث أصبح العالم في خضم عملية عصيبة وغير يقينية من إعادة التكوين.* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، مؤلف كتاب «الجغرافيا السياسية للعاطفة».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
قومية الموجة الجديدة
24-12-2010