للشعوب طباع وخرائط نفسية تميزهم عن غيرهم وتسِمَهم بسمات خاصة. وقد تتغير هذه الطباع والسمات تبعاً لمتغيرات المجتمع وظروفه عبر الأجيال والحقب التاريخية. ونحن وإن كنا نتصف سابقاً بصفات القناعة والتقشف والرضا بما قسمه الله والصبر الجميل، فإننا بتنا نشهد اليوم انعطافة واضحة في المزاج النفسي العام.

Ad

ويأتي على رأس حزمة الطباع النفسية -في وقتنا الراهن– سرعة الغضب وحدة الطباع والميل إلى العنف اللفظي والسلوكي، ومنها أيضاً الملل و"ضيقة الخلق"، ومنها داء السفر الدائم بلا مبرر أو غاية اللهم إلا الهروب من فراغ أرواحنا وتجهّم وجوهنا، أما القناعة فقد طارت في مهب الريح، وأصبح اللهاث وراء المزيد من المال والمزيد من المكاسب والمناصب والمزيد من "الكشخة" والمزيد من المظاهر في البيوت والاستقبالات والمناسبات العائلية، السمة الغالبة والموجعة.

ومع إطلالة الشهر الفضيل نشهد نبرة لاذعة أو متهكمة من كتّاب الزوايا في صحفنا المحلية، ينتقدون فيها -بلا رويّة- سلوكيات الناس في استقبال شهر الصوم، فمنهم من يسخر من التسابق إلى المؤن الغذائية، ومنهم من ينتقد الإقبال على المسلسلات الرمضائية، وآخرون يشككون في ورع الجموع الساعية إلى صلوات القيام أو الاعتكاف، وانصرفت فئة إلى الانشغال في تحليل أو تحريم عادات بريئة مثل "القرقيعان"... إلخ. ولكن لو نظرنا إلى هذه الحركة النافرة التي يحدثها شهر رمضان في سياق روتين حياة الناس ومعاشهم، لما تسرعنا في الانتقاد والتهكم.

أتصور أن ما يأتي به شهر رمضان من متغيرات في إيقاع الحياة وما يحدثه من كسر في العادة والروتين أمر صحي ومحمود، خصوصاً بالنسبة إلى شعب ملول ومصاب "بضيقة خلق" مزمنة. فيأتي هذا الشهر الكريم لينثر شيئاً من البهجة والغبطة الروحية، ويرطب النفوس بنفحاته ومسراته، وينشط الناس للتعبير عن هذه المسرات المادية والروحية بذلك اللون من السلوكيات والعادات. إن الإقبال على ابتكار صنوف الأطعمة والأشربة والاجتهاد في أساليب تزيينها وتقديمها، هو لون من المتعة التي تعدّل المزاج وتبهج القلب خصوصاً بالنسبة إلى الصائم. واجتماع الأسرة لمتابعة مسلسل بعد الإفطار أو على السحور يصبح أمراً مبهجاً وطقساً حميماً في رمضان فقط، والدليل أن المحطات التلفزيونية تظل تبث أجمل المسلسلات وأقوى البرامج على مدار العام دون أن يلتفت إليها أحد أو يعقد معها أي صلة حميمة! وفي رمضان أيضاً تتيقظ صلات الرحم وتستدفئ القلوب بقرب الأهل ولمّة العائلة الكبيرة، وتنتعش الأسواق، وتنطلق أرتال السيارات نحو المزيد من الفسح والسهرات والتسالي البريئة، أما اليقظة الروحية الموسمية في غشيان المساجد والإقبال على العبادة، فلعلها أكثر صنوف الغبطة والمسرات القلبية أثراً على الإنسان الذي أنهكه الملل وبطر الراحة وسرابية المكاسب الدنيوية.

في رمضان -بهذا المنظور- رحمة غامرة تصيب البلاد والعباد، وفيه فسحة للأرواح المتعبة، وراحة من كمد العيش وأدواء النفوس. إنه بجدارة شهر البهجة والمسرات، فسبحان من جعله مغفرة ورحمة وعتقاً من كربات الدنيا والآخرة.