ضمير كولومبس

نشر في 14-10-2010
آخر تحديث 14-10-2010 | 00:00
 فوزي كريم كريستوفر كولومبس (1451-1506)، الإيطالي الذي اكتشف أميركا، ظناً منه أنه بلغ الشرق، تحت العلم الإسباني، نموذجٌ ممتازٌ لبطل الأوبرا، فهذا بطل بعاطفة طموحة للمغامرة، تحت وطأة ضغينةٍ من حاسدين، وفي غمرة حب، ونهاية تراجيدية للدراما.

عناصر جاهزة، لكن أحداً من الكبار من مؤلفي الأوبرا لم يجد فيها كفاية، نعم، هناك عددٌ ممن وضع عملاً للحكاية التاريخية، لكن أعماله ظلت في غمرة النسيان، من أمثال سكارلاتي في نهاية القرن السابع عشر، الذي كانت حكايتُه تتحدث عن «كولومبس، أو اكتشاف الهند»، وفرانتشيتي، في مطلع القرن العشرين.

هؤلاء جميعاً أقحموا البطل التاريخي في فانتازيا مثيرة تليق بذائقة جمهورهم، الذي يطمع إلى المتعة والتسلية، على أن الأمر لم يستقِم بما يليق بدراما معقدة كهذه، إلا هذه الأيام، وعلى يد الموسيقي الإسباني المعاصر ليوناردو بالادا (مواليد برشلونة 1933).

بالادا أقبل على حكاية كولومبس بحماسة المحتج، لأنه رأى، من بين عناصر دراما هذا البطل، عنصراً خطيراً، لم يلفت نظر أحد.

فمن المعروف تاريخياً أن فتوحات كولومبس، عبر رحلاته الأربع المتلاحقة، كانت بالنسبة إلى عموم أوروبا، فاتحةَ مرحلة الاستعمار والهيمنة، وفاتحةَ حملة الإبادة الدامية لشعب الهنود الحمر.

حماسةُ بالادا دفعته إلى تأليف عملين أوبراليين: «كريستوبال كولون» (وهو اللفظ الإسباني لكولومبس)، «وموت كولون» (دار Naxos)، الأول طموحٌ، بين المخاطر في البحر، والأمل في بلوغ اليابسة، واليأس، والثاني أزماتُ ذنب وإدانة، للرجل المُسجى على فراش نهايته.

حين ترك كولومبس بلدته جنوى، في إيطاليا، بحثاً عن داعم لمشروع الوصول إلى الشرق عن طريق الغرب، وجد ضالّته في ملك إسبانيا فرناندو والملكة إيزابيلا، لكنه في عمقِ رحلته واجهَ تمرّدَ البحارة، بفعل يأسهم من بلوغِ أرضٍ، أيّ أرض: «أيتها الطيور المحلقة فوق رأسي، إنني أُصغي لك، دون أن أراكِ، أجيبيني، أخبريني أين هي إرادة الله؟ أين هم الملائكةُ؟ أين هو المصير؟ الرحلة تنتهي هنا، هنا تنتهي رحلة كولومبس».

لكن صرخة «أرض، أرض» تدوي فجأة، ليعود الفاتح مُفعماً بالأمل، في مشهد العودة لا يغفل المستمع إلى صوت الهنود الأسرى، بين أناشيد البحارة المنتصرة: «في بحار الإيمان والأمل...»، هامسةً « في بحار الدماء... في بحار الدماء...».

شبحُ المأساة التي تعرّض لها أبناءُ أميركا الأصليون تكاد تخيم على معظم الأوبرا الثانية، التي تمتد قرابةَ مئة دقيقة، مقارنةً بالأولى التي تتجاوز ذلك بقليل.

تبدأ بمظاهر الاحتفاء بعودة كولومبس، من قِبل الملك والملكة وعامة الشعب، عائداً بخزائن الذهب، ومئات العبيد والأقنان، كعيناتٍ مُكتشفة، لكننا سرعان ما نرى أن مشهد الاحتفاء ليس إلا استعادة في ذاكرة كولومبس المُسجى على سرير موته، بل أن مجملَ مشاهدِ الأوبرا استعاداتٌ من فوق سرير الموت، وبتقنية جدّ سوريالية، تعكس دوامةَ موتِ رجلٍ داخل مخيلة، تقارب رؤاها حافة الجنون، وفي غمرة صراعٍ مع الحضور الطاغي لـ»الشخص الغامض»، الذي يمثل ضمير كولومبس الداخلي: «كولومبس، توهجُ الغدِ يدخلُ عبرَ نافذةٍ كئيبة، أنت لست حتى بطلاً، في عزلتك، بل رهينة قدرٍ تاريخي لا مردّ له».

بالادا موسيقيّ معاصر بصيغة نموذجية، كان في الستينيات والسبعينيات طليعياً، على طريقة عرف المرحلة المتطرف: تجنب الميلودي (اللحن)، واعتماد النشازات الهارمونية، الآن يستمرئ العودة إلى عناصر المعمار الموسيقي المعروفة: اللحن، الهارموني والإيقاع، يوحد المزاج السوريالي بالاستيحاءات الفولكلورية والمحلية، وباللغة الأوركسترالية المعاصرة. إنه يمنح النفس كلَّ إمكانات التقنية الموسيقية، من دون أسر جانب، وعبودية جانب، باسم الحداثة والطليعية.

ولعل يقظة توجهه الأخلاقي هي السر الذي منح عملَيه هذا الدفق الدرامي، الذي ظل عالياً إلى آخر دقيقة، فهو لم يترك كولومبس في بحران المنتصر، بل أيقظ فيه شبحَ الضمير الذي لا يلين. 

back to top