عودة العلم المنسي

نشر في 03-03-2011
آخر تحديث 03-03-2011 | 00:00
 فوزي كريم أكثر الفاعليات إثارة ورمزية في ما حدث في ثورة ليبيا أن الناس في كل البلاد، وبعفوية مذهلة، ألقت في الكِناسة علمَ معمر القذافي الأخضر، وأخرجت علم المملكة القديم، المطمور تحت غبار النسيان طوال 42 عاماً. أخرجته واحتضنته بألفة من استعاد روحه ووعيَه معاً.

لم تنطفئ هذه الفاعلية، التي تجاوزت معناها الرمزي، داخلَ دائرة تأملي، منذ اليوم الأول. وكأن العلم الملكي القديم قد انبعث من داخل التربة، كما تنبعث الخيول الأسطورية، ليخفق على رؤوس أبنائه، مبشراً بعودة الروح والوعي معاً. عودة الروح من ركام الرماد الذي غيّبَ فيه أحمقٌ رخيصٌ شعباً برمته. وعودة الوعي، لأن هذا الفعل ينطوي على معنى بالغ الخطورة يقول: لقد حان الاعتراف بأن «الثورة الانقلابية» التي فرضها القرن العشرون البائد على رؤوس العباد، والتي طبّلت لها الأحزاب العقائدية، والمثقفون والشعراء الثوريون، واستجاب لها العسكر بهمة المُنتفع، قد آن لها أن تُدان، وتزول من قاموس الشعوب وهي تدخل القرن الواحد والعشرين. تُدان رغم أن زيفها قد اتضح منذ السنوات الأولى لارتفاع رايتها، كما يرتفع السيف فوق الرقاب المُستضعفة، ولكن لا حيلة للمستضعف إلا الصمت الدامي.

نعم، في هذا الفعل الليبي العجيب قوةٌ رمزيةٌ منحتني الكثير من الدلالات. فأنا لمْ أر فيه ما يعني، بأي شكل من الأشكال، حنيناً، أو توقاً إلى العودة إلى أيام الملك السنوسي. ولم أر فيه حماساً لنظام بعينه. بقدر ما رأيت فيه شجباً، ورفضاً لإرث «الثورة الانقلابية»، الذي تكثّف وجوده في هيئة القائد البطل، الأوحد، والخالد. لا في ليبيا المقموعة وحدها، بل في معظم أنظمة العالم العربي الاستبدادية. إن استعادة العلم القديم، المنسي، كان أرفعَ صرخة شجب لما حدث في القرن الماضي باسم الثورة.

لقد منح العسكري الشاب عبدالناصر لكل الشباب من العسكر من أمثاله في العالم العربي، درساً مثيراً للحماس. يخلو من الحكمة، ولكنه لا يخلو من حلاوة المنطق النفعي. فهو لم يفعل أكثر مما آمنت به الأحزاب التقدمية، التي قالت إنها الطليعة الواعية للشعوب. وإن «أفكارها العظمى» التي تؤمن بها هي الهدى، والهدف الأسمى. وتجريديةُ أفكارها ذات هالة مقدسة. وبراعتُها في بلورة نظرياتها التجريدية مُضاءةٌ دائماً ببلاغة الشعراء والكتاب الثوريين.

ومن هذه الخبرة اكتسب القائدُ الثوري براعةَ أن يكون بدوره طليعةً للشعب كله. وإذا ما توهمتْ الأحزابُ وصدّقت وهمها، وبرعت في إيهام الناس، فإن القائد الثوري بدوره توهم، وصدّق وهمه. ولأنه لا يستطيع أن يوهمَ الناس، بقي يتعامل معهم بين الترغيب والترهيب. ويتعامل مع سمعته بينهم كـ»فكرة عظمى»، ثم كرمز مجرّد، وغير بشري. وما زلتُ أتذكر، في سبعينيات بغداد، كيف أصبح لقبُ «السيد النائب»، الذي كان يُطلق على صدام حسين، تعبيراً «فوق بشري». رمزية مجردة، وذات هالة مثيرة للفزع والخَرَس. وكذلك الأمر مع القذافي الذي يخرج إلى الناس قائلاً إنه «ليس رئيساً ليستقيل»، إنه قائد ثورة أبدية. إنه «فكرة عظمى». إنه تجريد ورمز. وإنه، بفعل خيبته من صرخة الناس الرافضة له، الابن الذي يحس باليتم، على اثر فقدانه أحضان قرنه العشرين الدافئ.

هذا النموذج للحزب، كطليعة عقائدية ممثلة للشعب، ونموذج القائد الثوري كرمز «فوق بشري»، هما نموذجان أنجبهما القرن العشرون عبر مفهوم وفعل «الثورة الانقلابية». نموذجٌ أحس اليوم أنه أصبح عالةً، بفعل بضعةِ أسابيع تونسية كشفتْ عن وجه جديد للقرن الواحد والعشرين. قرن الإنترنت بامتياز. وسيظل القذافي، في سقوطه هذا لا في زعامته تلك، أكثر من رمز للطفل المدلل، الذي ولد ونشأ في أحضان ظاهرة «الثورة الانقلابية» للقرن العشرين الغابر.

تآمر الناس، عبر الإنترنت، على المستبد هو نارُ بروميثيوس التي لن تهدأ. اشتعلت في بلدان الأنظمة الاستبدادية، وستتسع للأنظمة الديمقراطية الفاسدة. شباب التنوير من اللبنانيين ينظمون صفوفهم عبر الإنترنت. وسيفعل التنويريون العراقيون الشيء نفسه هذه الأيام. سيشكلون تنظيمهم الكبير، وعبره يقدمون مطالبهم التي لا تُرد.

back to top