مع اقتراب الشهر الفضيل وبدء العد التنازلي لحلول شهر رمضان المبارك، يظل المسلمون في كل بقاع الأرض في حيرة وترقب لا يستطيعون تحديد يوم صيامهم، هل هو يوم الأربعاء القادم أم الخميس القادم، فقد أكدت الحسابات الفلكية أن مولد الهلال سيكون يوم الثلاثاء 10 أغسطس، وأنه سيغرب بعد غروب الشمس بـ20 دقيقة، وبناءً عليه ينبغي أن يكون يوم الأربعاء هو أول أيام الصيام، ولكن الذي يحدد هذا الأمر هو التمكن من رؤيته بالعين المجردة، وهكذا يستمر المسلمون في حيرتهم وترقبهم حتى غروب شمس آخر يوم في شهر شعبان حينئذ يتراؤون هلال الشهر الفضيل، فإذا ما أسعد الحظ أحدهم ورآه وشهد أمام اللجنة الشرعية الرسمية المختصة بالتحري والاستطلاع واعتمدت شهادته، حينئذ فقط يتمكنون من معرفة أول أيام رمضان المبارك.

Ad

وتتجدد حيرة المسلمين وترقبهم في تحديد مواعيد كل مناسباتهم الدينية كالحج والإسراء والمعراج والمولد النبوي وغيرها، كما ستتجدد هذا الموقف المربك قبيل استطلاع هلال شوال لتحديد نهاية شهر الصيام وبدء العيد مرة أخرى، ما كان أغناهم عن كل هذه الحيرة والترقب، لو اعتمد المسلمون المنهج العلمي الفلكي في جميع مناسباتهم الدينية، فدينهم، دين العلم والمدنية، يحثهم على اعتماد الوسائل العلمية، وما جعل الله على المسلمين في أي أمر من أمورهم أو مناسباتهم الدينية أي حرج، يريد الله لعباده اليسر لكن معظم المسلمين مازالوا مصرين على إثبات هلال رمضان وغيره من الشهور الهجرية بالرؤية البصرية المجردة المؤكدة لولادته ولثبوت دخول الشهر الجديد.

التقاويم الفلكية كها، ومنها تقويم أم القرى، تشترط لثبوت رؤية الهلال شرطين:

1 - حصول الاقتران بين الشمس والقمر، أي وقوع القمر بين الأرض والشمس تماماً، إذ يضيء الشمس نصف القمر المواجه لها، في حين يكون النصف المواجه للأرض مظلماً تماماً فلا نراه.

2 - أن يغيب القمر بعد غروب الشمس ولو بدقيقة، التساؤلات المحيرة والمتكررة في مثل هذه المناسبات التي يتجدد فيها الجدل بين الشرعيين المتمسكين بالرؤية البصرية المجردة، والفلكيين الذين يعتمدون الحساب العلمي: لماذا لا يستطيع المسلمون حسم هذا الجدل؟! لماذا لا يتفقون على طريقة علمية موضوعية تريح الناس في بدء صيامهم وفطرهم؟! إلى متى يستمر هذا الخلاف الذي يربك المسلمين ويزيد من انقسامهم؟! هل يعقل أننا اليوم على أبواب العقد الثاني من الألفية الثالثة ونحن عاجزون عن الاتفاق على موعد محدد يوحد صيام المسلمين في كل مكان كما يوحد فطرهم واحتفالهم بالعيد؟! المسلمون يتمتعون بمنجزات العلم وفتوحات التقدم الحضاري، وهم منغمسون في جميع مظاهر الحضارة والمدنية، كما أنهم لا يمتنعون عن الأخذ بالوسائل العلمية الحديثة في جوانب حياتهم ومجتمعاتهم كلها، وقد استوردوا نظم الإدارة والاتصال والإعلام والتربية والتعليم والصناعة والتجارة، إضافة إلى النظم السياسية والقضائية والأمنية والتشريعات المنظمة لشؤونهم العامة، ومع ذلك مازالوا يمانعون ويرفضون الأخذ بالحساب العلمي الفلكي أسلوباً في إثبات هلال رمضان وانتهائه!

المدهش أن هؤلاء الذين يرفضون الحساب العلمي الفلكي لتحديد بدء الشهر، يأخذون به في تحديد مواعيد دخول أوقات الصلوات الخمس اليومية وصلاة الجمعة وفي تحديد مواعيد الإمساك والإفطار في رمضان ولا يرون في ذلك أي تعارض مع النصوص الشرعية المحددة لمواعيد تلك العبادات! ومن الخبر المفرح ما نقلته وكالات الأنباء أنه في مطلع هذا الشهر الفضيل وبعد أيام عدة تبدأ عقارب أعلى ساعة في العالم مؤذنة بانطلاق التوقيت العالمي لساعة مكة المكرمة التي تطل على العالم بقطر يزيد على 40 متراً، وتعد أكبر ساعة برجية في العالم وبارتفاع يزيد على 400 متر ويمكن رؤيتها من جميع أحياء مكة المكرمة، السؤال هنا إذا كنا قد اعتمدنا هذه الساعة الضخمة ورأيناها وسيلة مقبولة شرعاً في تحديد مواعيد الصلاة والإمساك والفطر، فلماذا لا نعتمد الحساب العلمي الفلكي؟! ولماذا لا ننشئ مرصداً فلكياً متطوراً في مكة المكرمة ليساعدنا في تحديد مواعيد ولادة الهلال للشهور الهجرية كلها؟!

السؤال المحير مرة أخرى: لماذا معارضة الحساب العلمي الفلكي بالذات في تحديد ولادة هلال رمضان وشوال؟! يقولون إن ذلك بسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدد الوسيلة الشرعية لإثبات الهلال بالرؤية البصرية المجردة: صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن يجب أن نتذكر أن الرؤية البصرية المجردة هي الوسيلة المتاحة والمتيسرة لكل الناس في زمنه ولم تكن هناك وسيلة أخرى متيسرة، ولذلك علل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر بالرؤية، بقوله: "إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب"، بمعنى أنه لو كانت هناك وسيلة حسابية صادقة وصحيحة لما منعها الرسول ولأمر بالأخذ بها ولم يقصر الأمر على الرؤية المجردة، إذ ليست الرؤية البصرية أمراً تعبدياً لا يجوز مخالفته بل هو وسيلة لتحقيق هدف وغاية، وأي وسيلة حققت هذا الهدف فهي وسيلة مشروعة ولا معنى للتشبث بالرؤية البصرية المجردة ورفض الوسيلة العلمية اليقينية المثبتة لدخول الشهر الكريم إلا عند من يرى في استطلاع الهلال بالرؤية البصرية أمراً تعبدياً! وهذا غير معقول، وقديماً قال العلامة ابن القيم في رده على من حصر طرق الإثبات الشرعية الموصلة لتحقيق العدالة في وسائل محددة كانت موجودة على أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ورفض غيرها من الوسائل الحديثة، فقال: إذا ظهرت أمارات العدل بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة فلا يجعله منها، لأن مقصود الشارع من الطرق، إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهو من الدين.

يتجدد الاختلاف بين المسلمين في بدء صومهم وفطرهم كل عام بسبب قصرهم الاعتماد على الرؤية البصرية المجردة التي قد تتضارب أحياناً مع الحساب العلمي الفلكي، وفي دراسة مقارنة بين الرصد الفعلي (التبليغ بالرؤية) مع الحساب الفلكي على مدى 22 عاماً انتهى الباحث د. أيمن سعيد كردي -أستاذ علم الفلك بجامعة الملك سعود- في الفترة 1400هـ- 1422هـ، إلى:

1 - تطابق الحساب مع الرؤية في 14 مرة من حيث وجود الهلال.

2 - تطابق الحساب مع الرؤية في 24 مرة من حيث عدم وجود الهلال.

3 - لم يتطابق الحساب مع الرؤية في 18 مرة، حيث تم التبليغ بالرؤية مع عدمه فلكياً.

4 - لم يتطابق الحساب مع الرؤية في مرتين، حيث وجد الهلال فلكياً ولم يتم التبليغ.

وقد خلص الباحث من دراسته المقارنة إلى أن نسبة التطابق بين الحساب الفلكي والرؤية البصرية 67 في المئة، والذي أريد أن أصل إليه من عرض هذه الدراسة هو: إذا أكد الحساب الفلكي ولادة الهلال، وتعذرت الرؤية البصرية إما لقصر مكثه في الأفق وإما لوجود السحب وإما لعدم صفاء الأفق بسبب التلوث الجوي وإضاءة المدن

-علماً بأنه لا توجد دولة جوها صاف دون أبخرة وأغبرة الماء والهباء وغير ذلك- ألا يكفي هذا للقول بدخول الشهر الجديد شرعاً؟ ومن ناحية أخرى، هناك عوامل جوية مؤثرة في الرؤية مثل الغبار والرطوبة كما قال الشيخ سلمان بن جبر آل ثاني رئيس قسم الفلك بالنادي العلمي القطري ورئيس اللجنة الاستشارية للاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك، والذي أدار حواراً فلكياً وشرعياً حول رؤية هلال رمضان بهدف تأكيد دقة وصحة تحري الهلال عن طريق الرؤية المجردة، ولفت الشيخ سلمان إلى مشكلة تواجه رؤية الهلال وتتمثل في أن البعض الذين يقومون بمراقبة الهلال يقعون في خطأ نتيجته أن يصوم ملايين المسلمين مع العلم أنه يمكن تفادي الوقوع فيه بسبب نعمة التقدم العلمي، خصوصاً في مجال الفلك، وقال أيضاً: "إن الخلاف بين الفلكيين والشرعيين يجب ألا يستمر لأنه يزيد الشقة بين الطرفين ويجعل الناس ينفرون من علم الفلك، في حين يجب أن تكون الثقافة الفلكية مشاعة بين الناس لارتباط الفلك بحياة المسلمين التعبدية".

2- وبعد: أود أن أضيف إلى ما قاله الشيخ سلمان، ان اختلاف المسلمين المزمن حول هلال رمضان الحائر، بسبب رفضهم الحساب العلمي الفلكي، أمر يدعو إلى القلق، إذ يظهر هذا الدين العظيم دين العلم والتقدم بمظهر الرافض لمنجزات العلم، لنتصور مثلاً عندما يأتي أحدهم ويقول رأيت الهلال في الوقت الذي تؤكد فيه الحسابات العلمية أن الهلال لم يولد بعد، فكيف نأخذ بشهادته؟! ألا نكون بذلك قد أهدرنا الحساب العلمي؟! الحساب العلمي يقيني أما الشهادة فهي ظنية لأنها خبر الواحد، فكيف نقدم الظني على اليقيني؟! وهل هذا منهج مقبول شرعاً؟ لا أجد خيراً من أقوال الشيخ الغزالي رحمه الله حين قال: "أليس عجيباً أن تكلف أمة ببناء إيمانها على دراسة الكون، ومع ذلك تحيا محجوبة عن الكون ونواميسه وأسراره، ولاأزال أنظر بضيق وأسف لقوم يروون: نحن أمة أمية، ليفهموا منه أن الأمية صفة ملازمة لنا، فهم يرفضون الحساب الفلكي والقواعد الرياضية التي قام عليها إرسال المركبات الفضائية والنزول على القمر ثم ينظرون إليك بتبجح قائلين: أتنكر السُّنة؟! معذرة يا هلال رمضان، تُقْبِل كل عام وترحل ونحن في حيرة واختلاف في استقبالك، وأيضاً: في توديعك! يقول الفلكيون إن رمضان هذا العام سيكون الأشد حرارة ويشهد أطول ساعات الصيام مقارنة بالأعوام الماضية، ندعو الله أن يلطف بعباده ويتقبل صيامهم.

* كاتب قطري