بدأ مخاض ولادة الدولة الوطنية قبل حوالي 350 عاماً، أي أن الدولة التي نعيش في كنفها الآن ليست مخلوقاً قديماً، بل هي بحساب السنين مخلوق حديث. ظهرت الدولة كحل لمشكلة الاحتراب الديني، وكان ذلك على الأراضي الألمانية، وبالتالي فإن الدولة الحالية، ومهما أعلنت عن نفسها أو هويتها، سواء كانت إسلامية أو شيوعية أو ليبرالية أو اشتراكية أو غير ذلك، هي نموذج مستورد، وتكاد تكون نسخة طبق الأصل للنموذج الذي ولد آنذاك، مرتكزة على المبادئ الأربعة وهي الأرض والحكومة والشعب والسيادة. كل الدول تلتزم اليوم بتلك المعايير لكي تصبح دولة. بل إن أي دولة لا تدخل نادي الدول إلا بعد اجتيازها اختبار هذه المعايير. وغالباً ما يتم استخدام هذه المكونات للتشكيك في أهلية الدول الساعية إلى الاستقلال، وبالذات لكي تنجح في الاختبار السياسي، خاصة عندما تتقدم بطلب عضوية منظمة الأمم المتحدة، وهي ذاتها كمنظمة لم تكن موجودة قبل 1945.

Ad

وقد أصبح ذلك مشهداً مكرراً في أروقة مجلس الأمن، خاصة عندما تكون الدولة المعترضة على العضو الجديد عضواً في الأمم المتحدة. حدث ذلك مثلاً عندما تقدمت الكويت بطلب العضوية في المنظمة الدولية بعد استقلالها عام 1961، ومن ثم الأزمة التي افتعلها العراق إبان حكم عبدالكريم قاسم، والتي ادعى فيها أن الكويت تابعة للعراق. يتضح ذلك الموقف الظالم من محاضر جلسات النظر في عضوية الكويت سنة 1961. كان مندوب العراق حينذاك عدنان الباججي حاداً وظالماً في هجومه على كينونة الكويت، وقد بنى مداخلته الداعية لرفض عضوية الكويت انطلاقاً من أنها ليس لها مقومات الدولة. لم يكن الهجوم العراقي حينها مُهِمّاً لولا أنه كان قد ضمن تأييد الموقف السوفياتي الذي كان حينئذ عضواً دائماً في مجلس الأمن، وبالتالي استخدم حق النقض (الفيتو) ما أدى إلى رفض عضوية الكويت حينها، ولم تتمكن الكويت من الدخول عضواً كاملاً في المنظمة الدولية إلا بعد حدوث انقلاب في العراق سنة 1963، والإطاحة بعبدالكريم قاسم وتطبيع العلاقات بين الكويت والعراق، ومن ثم موافقة الاتحاد السوفياتي على عضوية الكويت. بالطبع قضية الكويت والعراق أكثر تعقيداً من ذلك الحدث، وهي قصة سنرويها لاحقاً ضمن سلسلة جديدة قادمة من «زمن عبدالله السالم»، ولكن جاء ذكرها فقط للتدليل على أهمية ورسوخ مبدأ مكونات الدولة الوطنية.

تكرر ذات الجدل حول مدى تأهل كيان سياسي مع متطلبات الدولة، وإن بدرجات مختلفة، مع دول أخرى مثل تيمور الشرقية عند استقلالها عن إندونيسيا، وكذلك في إطار الجدل الدائر بشأن ملف استقلال كوسوفو عن صربيا، وهو جدل مازال مستمراً، وكان آخره الحكم الصادر من محكمة العدل الدولية لصالح أحقية كوسوفو في إعلان استقلالها من طرف واحد.

إلا أن الإشكالية المستمرة مع الدولة تجاوزت مكوناتها الأربعة، فهي لا تعني أن الدولة الوطنية، حتى بعد استكمالها المقومات الشكلية، قد أصبحت بالضرورة دولة فاعلة، تدير أمورها بكفاءة تنعكس على مكانتها الخارجية والداخلية. بل إن هشاشة الدول الذاتية من جانب ووحشيتها وأنانيتها من جانب آخر قد تسببت إلى حد كبير في زيادة التوتر والقلق والحروب والجرائم ضد الإنسانية.

ربما كان الفشل والترهل العالمي وعدم قدرة المنظومة الدولية على خلق نظام دولي مستقر منسجم مع متطلبات حماية الإنسان وكرامته، هو الذي دفع منظمة صندوق السلام إلى البحث عن أسباب الخلل في المنظومة الدولية، وهكذا ظهر مفهوم الدولة الفاشلة كجهد علمي بحثي ينطلق من فرضية أنه كلما زادت الدول الفاشلة فإن ذلك الفشل يؤدي إلى تهديد السلام العالمي. فكان الهدف من تأسيس مقياس الدول الفاشلة هو تدعيم السلام. فهل مقياس فشل الدول مقياس واقعي، أم أنه مجرد فكرة جذابة ذات نوايا طيبة، وما هي الأسس التي يستند إليها المقياس؟ وأين نحن منه؟ وما هو ترتيبنا فيه؟ للحديث بقية.