عبث شعارات المواطنة
لا معنى حقيقياً لرفع شعارات الوحدة الوطنية الفارغة دون معالجة سبب العلة... فسبب استفحال الاحتقانات والأزمات والاستقطابات على كل المستويات هو عرقلة النظام الريعي لأساسيات الديمقراطية وأهمها قيم المواطنة، ذلك النظام الذي جعل الكويت اليوم «أكبر حكومة في العالم» على حد وصف الخبير الاقتصادي جاسم السعدون، بسبب ضخامة جهاز الدولة الذي يعمل به معظم المواطنين، الأمر الذي أدى إلى احتكار الدولة للاقتصاد وإضعاف دور القطاع الخاص والمجتمع المدني في المشاركة الفعالة... فقد خلق هذا النظام سلوكيات وأنماطاً اقتصادية لا تقوم على ربط المكافأة بالإنتاجية، بل على تكريس الذهنية الريعية التي تعيش على الهبات والعطايا الحكومية، وتعتمد على المحاباة والواسطة والمحسوبية التي قتلت مبدأ تكافؤ الفرص، فالانتماء إلى القبيلة أو العائلة أو الطائفة يشكل في هذا النظام قوة اجتماعية يلجأ إليها الفرد للحصول على المكتسبات أو حتى نيل حقه أمام غياب حكم القانون وضماناته في حفظ حقوق الأقليات والحريات الشخصية. لقد عززت القيم الريعية تلك الذهنية القبلية، وهنا يفرق الباحثون بين القبيلة والسلوك القبلي أو العصبوي أو الفئوي... ولا يمكن، برأي عبدالله جناحي، أن تتوافق أو تنسجم أو تتصالح «السمات القيمية والثقافية والسياسية للاقتصاد الريعي مع مقومات المجتمع الديمقراطي»، وما لم يتخلص المجتمع من «ثوابته الريعية» ستظل الديمقراطية ناقصة وستبقى قيم المواطنة مشوهة، إذ تحل محلها ثقافة «الراعي والرعية».
تلك الثقافة الريعية تجعلنا ندور في حلقة مفرغة بدلاً من الحراك إلى الأمام، فالحراك المجتمعي في الديمقراطيات الحقيقية يتجسد في الصراع بين الطبقات الاقتصادية، أما في الأنظمة الريعية فهو صراع قبلي عصبي فئوي... الأمر الذي همش دورَ الطبقة الوسطى، وهي وقود المجتمع ومحركه الأساسي ومصدر استقراره في المجتمعات الديمقراطية... فبعد أن كانت الطبقة الوسطى تتكون من المثقفين والمهنيين أصبح التحول إلى هذه الطبقة لا يعتمد على معايير الكفاءة في ظل هذا النظام الأبوي الضامن للوظائف دون جهد أو إنتاج... فطغت على هذه الطبقة السلبية وقيم اللامبالاة واللامسؤولية والاتكالية على الحكومة الراعية أو القبيلة أو العائلة الراعية... لتنتقل ثقافة الرعاية من الأعلى إلى الأسفل، وتتجلى في كل المجالات ابتداءً من المجتمع إلى المؤسسة إلى المدرسة إلى البيت... فتحول أفراد المجتمع إلى رعايا لا مواطنين، وترسخت القيم الجماعية على حساب الحرية الفردية. دعوة التحرر من النظام الريعي هي ليست دعوة إلى التخلص من دور الحكومة، فدورها الرقابي الضابط للاقتصاد هو دور حيوي يضمن الحد الأدنى من الرفاهية والمساواة والعدالة الاجتماعية تحت حكم القانون والمؤسسات، ولكنها دعوة إلى معالجة مرض الدولة الريعية من خلال النظام الرأسمالي الاجتماعي، الذي تتبناه معظم الديمقراطيات المتقدمة اليوم، ذلك أنه يوازن بين الرأسمالية الصرفة الاستغلالية والاشتراكية (الريعية) الفاسدة غير المنتجة... والذي بدوره يعمل على مشاركة القطاع الخاص في تنمية المجتمع (من خلال تشريعات قانونية تحد من الاحتكار والاستغلال)، وخلق طبقة وسطى كبيرة إيجابية وفاعلة، فهي الطبقة التي يقاس بها تحضر المجتمعات، والتي تقوم بدورها في تفعيل وتطوير مؤسسات المجتمع المدني (كالأحزاب وجماعات الضغط) التي لا تقوم للديمقراطية قائمة بدونها.وقد نجد في دعوة المفكر محمد عابد الجابري (صاحب مشروع نقد العقل العربي) حلاً في بناء ديمقراطية حقيقية غير مزيفة عن طريق تحويل البنى القبلية إلى «تنظيم مدني سياسي اجتماعي»، وتحويل «الغنيمة» المتجسدة في الاقتصاد الريعي إلى «اقتصاد إنتاجي»، وتحويل «العقيدة» إلى رأي بعيداً عن التعصب المذهبي الطائفي.