ندرك ونحن نودع الزميل الإنسان المتواضع المفكر الراحل د. أحمد البغدادي أن الوداع قاسٍ جداً على النفس البشرية، إلا أن عزاءنا هو أننا على ثقة تامة بأن أفكار الزميل الراحل الجريئة ستظل باقية حتى بعد رحيل جسده الضعيف لأن الأفكار لا تموت.
لقد رفع الراحل د. البغدادي، الملتزم دينياً، صوته عالياً واضحاً ضد محاولة بعض التيارات الدينية إيهام الناس بأنها تحتكر الحقيقة في تفسير أحداث التاريخ الإسلامي، بيد أنه لم يدعِ أنه يمتلك الحقيقة الكاملة، بل إنه ظل حتى آخر أيامه يدافع بقوة عن حق الإنسان في التعبير عن رأيه واستخدام عقله في تفسير الظواهر والأحداث الدينية التي لعبت دوراً مؤثراً في تشكيل الفكر الإسلامي والتي تدَّعي التيارات الدينية أنها صاحبة الحق المطلق في تفسيرها، رغم أن التاريخ الإنساني يثبت لنا أنه ليس هناك حقيقة كاملة في تفسير الظواهر والأحداث التاريخية إذ إن الحقيقة تظل دائماً نسبية تتحكم فيها ظروف الزمان والمكان وطبيعة القوى المسيطرة.لم يكن د. البغدادي وحيداً في هذا الميدان إذ سبقه الكثير مثل المفكرين الكبيرين الراحلين حسين مروة ود. فرج فودة، اللذين اغتيلا بسبب آرائهما الجريئة التي لم تطالب إلا بإعادة قراءة الأحداث التاريخية وإعادة تفسير المحطات المفصلية المهمة التي لعبت دوراً رئيسياً في مسار الحضارة العربية الإسلامية بشكل آخر مختلف تماماً عما هو سائد من تفسير يروّج له الإسلام السياسي. كما سبق د. البغدادي أيضاً المفكر الراحل د. نصر حامد أبوزيد ود. سيد القمني، اللذان تم تكفيرهما وتعرضا للكثير من المشاكل الحياتية بسبب آرائهما الجريئة في إعادة قراءة الأحداث والظواهر الدينية بطريقة جريئة.ولعله من الأهمية بمكان أن نؤكد هنا أن هؤلاء المفكرين التنويريين الذين قدموا لنا رؤية جديدة ومختلفة لكيفية قراءة التراث العربي الإسلامي لم ينطلقوا من موقف عدائي مبدئي ضد الدين الإسلامي، بل على العكس من ذلك تماماً، فإنهم كانوا من الملتزمين دينياً، كما هو حال الزميل الراحل د. البغدادي الذي نعرفه شخصياً إذ زاملناه في الجامعة سنواتٍ طويلة، وكل ذنبهم أنهم كانوا من أشد المدافعين عن أهمية دراسة التاريخ والتراث الإسلامي بروح جديدة تستخدم العقل من أجل استخلاص العبر باعتبارهما، أي التاريخ والتراث، من صنع البشر وليس لهما قدسية، بل إن إعادة قراءتهما وتفسير الأحداث التي تشكلا منها يحتملان الصواب كما يحتملان الخطأ أيضاً، لذا فمن الطبيعي أن يكون هناك أكثر من قراءة وأكثر من تفسير للتاريخ والتراث البشري إذ يمكن تناولهما من زوايا عدة تفرضها ظروف الزمان والمكان وطبيعة المرحلة التاريخية.لهذا فإن دعوة هؤلاء المفكرين تتلخص في ضرورة إعادة قراءة التاريخ الإسلامي من جديد باستخدام العقل لا العاطفة، وذلك من أجل تجديد الفكر الإسلامي ليتناسب مع روح العصر ومتطلباته كما كانوا يقولون في كتاباتهم ومؤلفاتهم العديدة. لذا فليس غريباً أن يكون عنوان أحد أهم مؤلفات د. البغدادي هو "تجديد الفكر الديني... دعوة لاستخدام العقل".ليس من الضروري أن نتفق مع كل ما طرحه د. البغدادي أو غيره من آراء وأفكار إذ إنها قابلة للنقاش والنقد والاختلاف، كما هو حال أي أفكار أو آراء بشرية، بيد أننا لابد أن نحترمها أولاً ثم نخضعها بعد ذلك للتحليل والنقاش العلمي مع الأخذ في الاعتبار أنه من المستحيل منع العقل البشري من التفكير، كما أن الافكار النيّرة والجريئة لا تموت أو تتوقف مع توقف قلب مبدعها عن الخفقان، بل إنها تبقى حية وتتناقلها العقول جيلاً بعد جيل مادام العقل البشري قادراً على التفكير.
مقالات
في رثاء د. البغدادي... الأفكار لا تموت
18-08-2010