يشحنون النفوس بالبغضاء والتعصب، وإذا وقعت حوادث العنف ضد الأقباط وسالت الدماء، أسرعوا يتوضأون بدماء القتلى ثم يتحدثون عن سماحة الإسلام ويستنكرون ويشجبون... هكذا عبر المفكر الإسلامي المستنير د. أحمد صبحي منصور قبل حوالي 17 سنة... ولاتزال كلماته صالحة، كما يقول، للاستهلاك الآدمي... فبحثه «اضطهاد الأقباط في مصر بعد الفتح الإسلامي» يشرح بجرأة غير معهودة حالة العبث والفوضى والتزوير التي ألحقها المسلمون بدينهم، متناسين قوله تعالى «يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً»، «وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ».

Ad

أما ما يحدث اليوم من تغلغل لثقافة العنف ونبذ التعددية فقد رسخها التاريخ الدموي الذي أنتج شرقاً بائساً محتقناً بالطائفية والتوتر... وهي مسألة ليس بمقدور الأمن أن يحلها، إنما يكمن حلها في الإصلاح الديني الفكري، كالإصلاح الذي حدث في الغرب بعد أن اكتوت شعوبه بنيران الطائفية، وبعد أن سالت دماؤه أنهاراً. تاريخنا كذلك صفحاته ملطخة بالدماء، إنما الفرق يكمن في أنهم استوعبوا درسه فطبقوا رسالة الفيلسوف جون لوك في التسامح، وهي الرسالة التي تقول (كما ترجمها د. عبدالرحمن بدوي): «يجب ألا تُتهم المذاهب المخالفة للمذهب السائد في الدولة بأنها بؤر لتفريخ الفتن وألوان العصيان. إن هذه التهمة لن تكون لها أي مبرر إذا ما قام التسامح، فإن السبب في وجود دواعي الفتنة عند المخالفين هو ما يعانونه من اضطهاد من جانب المذهب السائد. ولهذا فإنه متى مازال الاضطهاد واستقرّ التسامح معهم، زالت أسباب النوازع إلى الفتنة والعصيان، ومن أسباب التآمر والفتن استبداد الحاكم ومحاباته لاتباعه ولبني دينه».

ولكن أنَى لنا أن نستوعب هذه الرسالة الخالدة التي كانت السبب في ازدهار الإنسان والعمران في بلاد جون لوك... فالاضطهاد الذي يقع اليوم على المسيحيين العرب هو امتداد لممارسات أجدادنا الأمويين والعباسيين وما بعدهم التي يسرد تاريخها د. منصور بالتفصيل، ونخص هنا عصر المتوكل، الذي جسد انتصار الفكر الجامد المنغلق على الفكر العقلاني، ليطارد الشيعة ويهدم ضريح الحسين في كربلاء ويلزم الأقباط بارتداء زي معين، وتهدم كنائسهم، ويحرمون من التوظيف والتعليم، وتعلق على أبواب بيوتهم صور للشياطين، وتسوى قبورهم بالأرض ويمنعون من حمل الصليب في أعيادهم وإشعال المصابيح في احتفالاتهم... وتطرف من بعده العوام والحكام في تحقير وازدراء الأقباط، كالحاكم بأمر الله الفاطمي، على سبيل المثال لا الحصر، الذي أمر بتعليق صلبان خشبية ثقيلة (5 أرطال) في أعناقهم، وهدم الكنائس كلها وأباح نهب الناس لها.

هكذا كانت العصبيات في كل مرة تحفر قبرها بيدها، كما فسر ابن خلدون قبل مئات السنين، أما اليوم فدولنا التي وصلت إلى قاع الانحطاط فشلت في بناء دولة الحداثة حين تحالف الاستبداد السياسي مع الاستبداد الديني، كما تحالف السادات معهم وعمل على أسلمة السياسة والتعليم والمجتمع بشكل متطرف، فأنتجت تلك السياسة الاحتقان الطائفي والتمييز العنصري ضد المواطنين المسيحيين، الذين يتعرضون للتفجير والتهجير وحرق الكنائس والمتاجر والبيوت، بعد أن كان المسيحيون ينعمون بمواطنة كاملة قبل 1952، يدافعون مع المسلمين عن وطنهم ضد الإنكليز ويشاركونهم الحياة العامة ويفوزون في دوائر لا يوجد فيها أقباط!

اليوم على «رجال الدين» أن يكفوا عن اعتذاراتهم وبياناتهم المنددة للتفجيرات الوحشية على كنيسة «القديسين» في الإسكندرية، وقبلها على «سيدة النجاة» في العراق، وقبلهما على «نجع حمادي»، التي لم تكن الحوادث الوحيدة ولن تكون الأخيرة، عليهم قبل أن يعتذروا أن يخافوا الله في خطابات الكراهية واللاتسامح المفخخة التي يبثونها من منابرهم وخطبهم وفتاواهم ومناهجهم، وأن يبدأوا خوض المعركة الفكرية المُضنية ليتمكنوا من ردم الهوة الحضارية السحيقة.

لا تعتذروا اليوم.