العراق: من النزاع السلمي إلى الصراع المسلح
كلنا يتساءل: كيف سيكون حال العراق الجديد بعد انسحاب القوات الأميركية المقاتلة منه؟وكيف سيواجه العراق التحديات السياسية والأمنية، وهو يقف وحيداً في الساحة، دون وجود قوة عسكرية عظمى تحميه؟
ولماذا لم ينتهز السياسيون الفرصة الذهبية التي كانت قائمة منذ سبع سنوات (2003-2010) بوجود القوات القتالية الأميركية، ولم يعيدوا بناء الوطن من جديد؟وهل كان من الخطأ الأميركي الفادح، أن تدخلت أميركا في العراق، خلال السنوات السبع المنصرمة، في كل كبيرة وصغيرة؟وهل كان على القوات الأميركية ألا تستقر في الداخل العراقي، وأن تنسحب فور إطاحة العهد البائد إلى الحدود العراقية مع جيران العراق، لمنع المتسللين الإرهابيين من دخول العراق، وترك عراق الداخل للعراقيين يتصرفون فيه بما يراعي حقوق الجميع، ويبنون دولتهم الجديدة بأنفسهم، دون تدخل من أحد؟وهل انسحاب القوات الأميركية المقاتلة من العراق يعني انعدام وجود صمام الأمان ضد الحرب الأهلية التي سعى الإرهاب من الطوائف كافة إلى إشعالها في العراق، لولا صمام الأمان ذاك، الذي كان يحول دون ذلك؟وهل الاحتقان السياسي الخطير الحالي، والصراع الحالي على السلطة السياسية المرير، وعدم وجود حلول قريبة وسريعة للأزمة السياسية العراقية الحالية في الأفق، وفي ظل تدهور الأوضاع الأمنية والمعيشية، وزيادة العذاب الجهنمي العراقي، الذي ربما يفوق عذاب أهل جهنم المتخيّل يوم القيامة... هل هذا كله من الممكن أو من المحتمل أن يؤدي إلى حرب أهلية، كانت مُتجنبَة طوال السنوات السبع الماضية؟وأخيراً، هل ستقود هذه المعطيات، والنكبات، والمآسي كلها إلى انتقال العراق من النزاع السياسي السلمي الذي كان بين فرقائه خلال السنوات السبع الماضية إلى صراع مسلح بدأت السكاكين تُشحذ من أجله، وبدأت أفواه البنادق تنظف للبدء به، وبدأت سيوف علي ومعاوية (العلاوي والمالكي) ترتفع من جديد، في معركة "صفين" الجديدة، وعلى أرض العراق ذاتها؟ هل ستقع "صفّين" الجديدة؟ من المؤسف، بل من المحزن والمؤلم، أن نفكر في أن الغد العراقي سيكون غد "صفّين الجديدة".بل إنها النكبة الكبرى، ضياع آخر فرصة للعرب للدخول في عصر الحداثة والحرية والديمقراطية. وهي نكبة أكبر من النكبة الفلسطينية في 1948 بكل المقاييس. فهل يسير العراق حثيثاً من النزاع السلمي إلى الصراع المسلح حول السلطة كما حدث في صفّين في عام 39هـ /659م؟الشواهد للأيام الأولى لانسحاب أرتال القوات الأميركية المقاتلة- التي دخلت بلا زهور وخرجت بلا زهور أيضاً. فلا حمدَ ولا شكوراً- تقول ولمَّا ينقشع بعد غبار رحيل هذه القوات، على لسان المؤرخ والدستوري والأكاديمي العراقي منذر الفضل في مقاله "منظمات الإرهاب في المفهوم الأميركي":"إن حزب البعث في العراق مارس ويمارس دوراً إرهابياً في العراق. وتقوم خلاياه حالياً بتنظيم اجتماعات دورية سرية متواصلة في مناطق متعددة من المحافظات العراقية، وخاصة في المناطق الغربية، وفي الموصل، وديالى، والوسط، والجنوب (في الجامعات والمدارس وغيرها)، من خلال سياسة الترهيب، والترغيب. وهو يخطط ويسعى إلى العودة للسلطة، من خلال ممارسة العنف، لأنه لا يؤمن بالتداول السلمي للسلطة، ولا بقواعد الديمقراطية، مستغلاً ضعف الحكومة، والصراعات السياسية على السلطة، وانتشار البطالة، والفساد المالي والإداري، والثغرات الأمنية، والدعم الإقليمي".الناقوس الأكبر هذا جرس صغير، من صنف الأجراس التي توضع على المكاتب للنداء. ولكن الناقوس الأكبر المروع للحرب الطائفية، جاء من تحذير الشيخ عبدالمهدي الكربلائي- ممثل المرجع الشيعي الكبير آية الله علي السيستاني، في خطبة الجمعة (20/8/2010)، في كربلاء- للسياسيين العراقيين من رد فعل الشعب العراقي، في حال استمرار عدم التوصل إلى اتفاق على تشكيل الحكومة، مؤكداً أن الشعب لا يمكن أن يتحمل المعاناة، إلى ما لا نهاية!وقال الشيخ الكربلائي في خطبته التحذيرية: "هناك فراغ في أداء السلطة التنفيذية، لانشغال السياسيين والقادة بالحوارات السياسية، وعدم تفرغهم لأداء مهامهم الأساسية".وكان يشير بذلك، إلى عدم تمكّن القوائم الفائزة في الانتخابات التشريعية، التي جرت في السابع من مارس الماضي، من التوصل إلى اتفاق على تشكيل الحكومة، رغم مرور أكثر من خمسة أشهر. وأمام مئات المصلين، وبكلام مسموع وموجوع، حذَّر الشيخ الكربلائي- وتحذير مثل هؤلاء الشيوخ له ما بعده- الكتل السياسية العراقية من خطورة التداعيات في جميع المجالات، من ردود فعل الشعب العراقي على عدم وجود انفراج في العملية السياسية، وبادرة أمل، بتشكيل الحكومة بأسرع وقت، لأنه- كما قال- لا يمكن أن يستمر الشعب العراقي بتحمل المعاناة والصبر، إلى ما لا نهاية. وأضاف، مطالباً السياسيين بتقديم المصالح العليا على المصالح الضيقة.ورغم ذلك فلا لعهد صدام! لقد دفعت الأوضاع العراقية المتردية، وتشريد أكثر من أربعة ملايين عراقي في الشتات العربي، والأوروبي، والأميركي، والكندي، والأسترالي، إلى حالة يأس ومرارة في نفوس العراقيين في الداخل والخارج، إلى الحد الذي دفع فيه هذا اليأس، وهذه المرارة، البعض إلى تمني عودة حكم صدام حسين، رغم طغيان هذا الحكم، وفساده، وديكتاتوريته العنيفة. ولكن الشعب العراقي، كان ينعم بالأمن والاستقرار- وذلك أضعف الإيمان- في ظل الجور، والفقر، وعدم توفر المواد الغذائية، والدواء، وخلاف ذلك. فأصبح حال الشعب العراقي الآن، كحال كثير من الشعوب العربية، التي تتحسر على أيام الاستعمار البريطاني والفرنسي وتتمنى عودتها، في ظل بعض الأنظمة العربية الفاسدة والطاغية. وكأن حال هذه الشعوب مع الشعب العراقي، كحال المريض بمرض مؤلم ومزمن، فيتمنى الموت لكي يرتاح من ألمه. وهو يعلم، أن الموت مهما كان رحمة وراحة، إلا أنه أقسى من أي حياة مؤلمة، ومعذبة. وهذا ما دفع الكاتبة ريم الصالح، إلى نشر مقالها "الله يرحم أيام صدام" بعد أن تمنَّت الموت في أيام صدام، على الحياة في الجحيم العراقي الحالي.* كاتب أردني