تزامناً مع اجتماع قادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في لشبونة لمناقشة الطريقة الأنسب للخروج من أفغانستان بحلول عام 2014، تبرز حاجة أكثر إلحاحاً إلى اتخاذ قرار بشأن عقد شراكة جديدة مع الرئيس الأفغاني حميد كرزاي.

Ad

بعد ساعتين من المناقشات المحتدمة مع كرزاي في القصر الرئاسي في كابول، اتضح أن وجهات نظره بشأن الأحداث العالمية، والتدخل الأميركي في أفغانستان، والمسار السياسي المستقبلي لبلاده، ودور منظمة حلف "الناتو" وموقفها، تبدلت بشكلٍ جذري. بل تشكل رؤيته العالمية الجديدة أكبر تحول جذري قام به خلال الستة والعشرين عاماً التي عرفتُه خلالها.

يوجه كرزاي انتقادات لاذعة للغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، معتبراً أن الغربيين عجزوا عن تحقيق السلام في أفغانستان أو إخضاع باكستان التي توفر ملجأً آمناً لحركة "طالبان". بحسب قوله، تخطئ الولايات المتحدة حين تلوم الأفغان على إخفاقات واشنطن الماضية والراهنة، كما يرفض كرزاي سيل الانتقادات الأميركية بحق حكومته.

في الأشهر الأخيرة، احتدم الجدل بين كرزاي وكبار المسؤولين الغربيين، وأبرزهم المبعوث الأميركي الخاص إلى المنطقة، ريتشارد هولبروك، وقائد قوات "الناتو" في أفغانستان، الجنرال ديفيد بتريوس. حتى أن بعض المصادر أبلغت وسائل الإعلام الأميركية بأن كرزاي يعاني خللاً عقلياً ويتناول الأدوية بانتظام، لكنه يبدو أكثر هدوءاً من أي وقت مضى، ومن الواضح أنه فكر مليّاً قبل الإقدام على تحوله السياسي الكبير، مع أن معظم أفكاره مبنية على نظريات المؤامرة أكثر مما تعتمد على الحقائق على أرض الواقع.

لم يعد كرزاي على ما يبدو يدعم "الحرب على الإرهاب" بحسب شروط واشنطن، وهو يعتبر زيادة عدد القوات العسكرية التابعة لحلف "الناتو" في الجنوب خطوة غير نافعة، بل إنها، بحسب رأيه، ترتكز على عدد القتلى الذين يسقطون من حركة "طالبان"، ما يجعل المدن الأفغانية أقرب إلى القواعد العسكرية وما يزيد تهميش الناس في بلدهم.

ما يريده الرئيس الأفغاني تحديداً هو إنهاء المداهمات الليلية التي تقودها قوات العمليات الأميركية الخاصة فوراً، علماً أن الولايات المتحدة تزعم أنها تمكنت، في الأشهر الثلاثة الأخيرة، من قتل أو أسر 368 قائداً متوسط الرتبة في حركة "طالبان"، وقتلت 968 جندياً مبتدئاً. لكن لا أحد يعلم عدد المدنيين الذين شملتهم هذه الإحصاءات.

وفي تصريح أثار ذعر المسؤولين الغربيين وسخطهم، يؤكد كرزاي وجود بديل سياسي لقوات "الناتو"، وهو يتمثل بزيادة الاعتماد على الدول الإقليمية، ولاسيما إيران وباكستان، من أجل إنهاء الحرب وإيجاد تسوية مع "طالبان"، غير أن أياً من البلدين لم يقدم لكرزاي أي مساعدة ملموسة خلال الأشهر الستة الماضية لتسهيل عملية إحلال السلام مع "طالبان". يقول مسؤولون غربيون وأفغان في كابول إن إيران عززت دعمها لـ"طالبان" في غرب أفغانستان خلال الأشهر الأخيرة في خطوةٍ تشكل على الأرجح ورقة ضغط ستخدمها في المحادثات المستقبلية الهادفة إلى إيجاد تسوية سلام. في المقابل، ترغب باكستان، التي تستضيف جميع قادة "طالبان"، في أن تشكل محور أي محادثات قد يقيمها حلف "الناتو" أو كرزاي مع "طالبان".

ويقول المسؤولون أنفسهم إن التنازل الوحيد الذي قدمته أجهزة الاستخبارات الباكستانية خلال الصيف قضى بممارسة الضغوط على شبكة جلال الدين حقاني لمنعها من استهداف كابول بالتفجيرات الانتحارية، وقد حافظت الشبكة على وعدها. لكن في المقابل، رفضت أجهزة الاستخبارات الباكستانية إطلاق سراح قادة "طالبان" الذين اعتُقلوا في شهر فبراير بسبب عقدهم محادثات سرية مع كرزاي. ويتابع كرزاي قائلاً إن الفشل الأميركي في السيطرة على أجهزة الاستخبارات الباكستانية لا يترك أمامه أي خيار آخر إلا تعميق علاقته مع باكستان إذا أراد عقد سلام مع "طالبان".

خلال الحديث الذي أجريتُه مع كرزاي، تحداني هذا الأخير لأتذكر ما إذا كان يوماً معارضاً للسياسة الغربية طوال سنوات علاقتنا القديمة. لابد من الاعتراف بأنه كان معجباً جداً بالغرب خلال سنوات نفيه في باكستان وخلال السنوات الأولى من عهده الرئاسي. صحيح أن تحول مواقفه السياسية يعود جزئياً إلى الخوف الشديد الذي يبديه مستشاروه، ولكنه يرتكز أيضاً على عقدٍ تقريباً من التوترات في العلاقة مع الغرب.

يشعر كرزاي بالخيبة والإرهاق والغضب من الرسائل المتضاربة التي تلقاها من الغرب خلال السنوات التسع الماضية، بدءاً من واشنطن ووصولاً الآن إلى حلف "الناتو". رفض الرئيس جورج بوش الابن تقديم موارد أو قوات إضافية لضمان أمن أفغانستان طوال أربع سنوات، بعد عام 2001. والآن يتأرجح قرار الرئيس باراك أوباما بين زيادة عدد الجنود وتحديد تاريخ لبدء الانسحاب. خلال قمة "الناتو" الأخيرة في لشبونة، سيتراجع أوباما عن موعد يوليو 2011 الذي حدده لبدء انسحاب القوات الأميركية. وبدل هذه الخطوة، سيتم تحويل المسؤولية إلى القوى الأفغانية، وستبدأ المرحلة الانتقالية وخطوة الانسحاب في عام 2014.

لا عجب إذن في الحيرة التي وقع فيها الأفغان، ومن المبرر ألا يتمكن كرزاي من إقناع شعبه بتصديق التقلبات في المواقف الغربية كسياسة متماسكة يجب اعتمادها. حتى الآن، لا وجود لأي سلطة مدنية مركزية تابعة للولايات المتحدة أو حلف "الناتو" من شأنها تنفيذ القرارات تطبيقاً للسياسة الأفغانية وتوجيه رسالة موحدة وواضحة إلى كرزاي، مع أن الجنرال بتريوس يؤدي هذا الدور في الشق العسكري.

وسط جميع هذه التطورات، يتزايد التشكيك بالبيت الأبيض ووكالة الاستخبارات المركزية في ما يخص نسبة نجاح خطوة زيادة عدد الجنود التي أوصى بها الجنرال بتريوس، وقد وصلت هذه الرسالة أيضاً إلى كرزاي. وفي الوقت عينه، لا ينفكّ عدد كبير من المسؤولين، من 50 بلداً تقريباً، إلى جانب سفاراتهم في كابول، عن تقديم نصائح مختلفة، لا بل متضاربة. للولايات المتحدة خمسة سفراء في سفارتها النافذة التي تضم 1500 مسؤول في كابول، وهم لا يكونون دوماً على الموجة نفسها مع الجنرالات الأميركيين. وبين فترة وأخرى، يظهر أعضاء الكونغرس الأميركي ليتهموا كرزاي بالفساد.

على الرغم من ضعف موقف الرئيس الأفغاني، وتفاقم حالة الحرب في أرجاء البلاد، ورغبة القوات الغربية في المغادرة، فإن كرزاي لايزال متمسكاً بالظهور بصورة الرئيس القوي وبإعادة التأكيد على سيادة أفغانستان. هذا ما فعله تحديداً الرئيس الشيوعي محمد نجيب الله حين بدأت القوات السوفياتية تغادر أفغانستان في عام 1989. فأسس نجيب الله حزباً وطنياً جديداً يتمتع بقاعدة دعم واسعة وطوّر أجندة وطنية ليتبعها جيشه الذي كان يختبر قدراته لشن معركة وطاقم المسؤولين الموالين له الذين هزموا المجاهدين حينها في معارك عدة.

قد يرغب كرزاي في تقليد نجيب الله، ولكنه لا يملك أياً من موارده. كما أن كرزاي، لا الأميركيين، هو المسؤول الأكبر عن فشل بناء مؤسسات الدولة. قد يؤدي تأكيده الراهن على سيادة أفغانستان إلى تمهيد الطريق أمام إنهاء الحرب مع "طالبان"، لكنه بهذه الطريقة يُربك الأفغان من خلال أداء دور الحكومة ودور المعارِض الوحيد الذي يدين في أغلب الأحيان مقتل عناصر من "طالبان" ولا يأتي على ذكر الضحايا الذين يسقطون من جنوده.

ما الطريقة التي تضمن الخروج من هذه الحلقة المفرغة إذن؟ يخطئ كرزاي إذا كان يظن أنه يستطيع الاتكال على الدول الإقليمية حصراً لإنقاذه من المأزق الراهن، إذ تواجه إيران وباكستان اضطرابات سياسية وأعمال عنف إرهابية وموجة عارمة من العدائية تجاه الغرب في صفوف قواتهما المسلحة. قد يتمكن البلدان من تأمين صلة وصل بينه وبين "طالبان"، ولكنهما لن يقدما له "خارطة طريق" لتحقيق السلام.

لابد من الاعتراف بأن معظم وزرائه لا يؤمنون بنظرته إلى العالم وهم يتابعون العمل مع حلف "الناتو"، لكن لا يُعقل أن يكون الرئيس على خلاف مع حكومته لفترة طويلة. غير أن اتهامات الفساد التي تحوم حول عائلة كرزاي وبعض الوزراء في حكومته تجعل من التعاون في ما بينهم مهمة صعبة والتقرب من الولايات المتحدة مهمة أصعب.

تقضي أبرز مهمة يجب أن يضطلع بها حلف "الناتو" بإعادة تقييم سجلها في أفغانستان خلال السنوات التسع الماضية والتوقف عن لوم كرزاي والأفغان وحدهم على تدهور الوضع في البلاد. يجب أن تتضح معالم سياسات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وأن تتوقف رسائلهما المتضاربة. إذا أراد كرزاي ومعظم الأفغان عقد محادثات سلام فعلية مع "طالبان"، فيجب أن يركز حلف شمال الأطلسي على هذه النقطة.

لن يُقدم كرزاي على قطع علاقاته مع حلف "الناتو"، ولكن مشهد رئيسٍ غير متعاون مقابل رئيس مستاء قد يمنح "طالبان" الدفعة التي تحتاج إليها والتي لا تستطيع الحصول عليها في ساحة المعركة. لسوء الحظ، تبقى فرص تحقيق النتائج ضئيلة للغاية خلال قمة لشبونة التي خاطبها كرزاي الأحد في محاولة لرسم مسار جديد لمواجهة الوضع المعقد أكثر من أي وقت مضى.