بعيداً عن العناوين الرئيسة، والحرج الشديد الذي وُضِعَت فيه الحكومات، والضربة الموجعة الموجهة إلى سرية المراسلات الدبلوماسية، فإن البرقيات الدبلوماسية الأميركية التي كشفت عنها «ويكيليكس» تعرض لنا تصويراً فظاً لمدى عمق التحول الذي طرأ على جوهر القوة في عصر المعلومات.
منذ نشأتها، كانت الدولة بمنزلة الوعاء الرئيس للسلطة؛ وكان الوصول إلى السلطة يعني عادة السيطرة على الدولة، سواء كان ذلك عن طريق الانتخابات أو الاستيلاء عليها بالقوة. بيد أن هذا النموذج، الذي يتحول الأفراد بموجبه إلى رعايا أو في أفضل الأحوال دافعي ضرائب وناخبين، بات عُرضة للهدم والزوال بفعل العديد من الاتجاهات الحديثة التي عملت على تمكين الفرد.ولنتأمل هنا الإنترنت، تلك الشبكة المؤلفة من نقاط التقاء لا حصر لها، والتي ابتكرت في ستينيات القرن العشرين في أوج الحرب الباردة للحفاظ على الولايات المتحدة من الفوضى الشاملة بعد وقوع أي هجوم نووي على مراكزها العصبية. لقد صممت هذه الشبكة عمداً بحيث تكون بلا تسلسل هرمي أو قلب أو سلطة مركزية، ولو أن قِلة من الناس في ذلك الوقت كان ليخطر على ذهنهم أن يتساءلوا إلى أين قد تقود العالم هذه السلطة غير المركزية الجديدة المتمثلة في الإنترنت، خصوصاً في ضوء الاختراقات العلمية العديدة التي حققتها الثورة الرقمية لاحقاً.ولقد قادتنا شبكة الإنترنت إلى الاتجاه الثاني: التحول الذي طرأ على عملية الإنتاج. فقد أصبحت المعلومات أكثر من مجرد رسالة تنقل بواسطة التكنولوجيا؛ بل إنها باتت الآن تشكل المادة الخام التي يتغذى عليها الاقتصاد المتقدم المعتمد على الخدمات المكثفة، والوحدة الأساسية لبناء المنظمات الاجتماعية والإنتاجية الحديثة.وهناك اتجاه ثالث يتعلق بالحيز الذي أتيح للفرد والعمل الجماعي. في كتاب «الحالة الإنسانية» تربط الفيلسوفة هانا أرندت السياسة بالقدرة البشرية، ليس فقط على العمل ببساطة، بل على «العمل الجماعي المتضافر»، ورغم أن العمل الجماعي المتضافر يمثل فكرة مألوفة، فإن الهدف منه في الأساس كان يتلخص في التأثير في الدولة، والذي تجسد في الطريقة التي نجح بها المجتمع المدني في التعجيل بانسحاب أميركا من فيتنام.بيد أن العمل الجماعي اكتسب اليوم حجماً مختلفا، فبفضل عالمية اللغة الرقمية، وسهولة استخدامها، والغياب الفعلي للتكاليف الهامشية لإنتاج أو نشر المعلومات، أصبحت الأدوات التي تستعين بها الدولة لفرض سيطرتها ضعيفة ومستنفدة.وكان التمويل العالمي من بين أشد الكيانات حرصاً على الاستفادة من هذه الميول والاتجاهات الجديدة، فاستخدم شبكات الإنترنت ليس فقط كأداة لتنفيذ العمليات بقدر أعظم من الكفاءة والسرعة، بل أيضاً كوسيلة للالتفاف حول إشراف الدولة والتحايل عليه. ولقد توسعت الشركات في استخدام هذا النوع من التواصل بهدف إضفاء طابع العولمة على أسواقها، وقياداتها، ومشاريعها في مجال البحث والتطوير، فضلاً عن ترويض الضرائب. الأمر الذي أدى إلى تحويل علاقاتها بالدول، سواء داخل بلدانها الأصلية أو في أي مكان آخر.في سبتمبر من عام 1992، تطلب الأمر من جورج سوروس أن ينفق 10 مليارات دولار أميركي إلى أن تمكن من إخضاع بنك إنكلترا (المركزي البريطاني) وحمله على خفض قيمة الجنيه. أما الآن فإن الأمر لا يتطلب أكثر من جهاز كمبيوتر متصل بالإنترنت لإحداث اضطرابات خطيرة: اقتحام المتسللين للشبكات المحمية، أو زرع الفيروسات المدمرة والديدان في أنظمة المعلومات الحساسة. وفي حين أن الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001- الأشد فتكاً ودموية على الإطلاق- لم تكن «افتراضية» في طبيعتها، فإن تنظيم «القاعدة» الذي ارتكب هذه الهجمات، يفرض سحابة قاتمة من التهديد والقوة من خلال استخدام الفضاء الإلكتروني للترويج «لنجاحاتها» الدموية، ونشر الكراهية، وتجنيد الجهاديين.وبطبيعة الحال، ساعد الوصول إلى عالم مترابط بشبكة واحدة في موازنة قوة الدولة بطرق إيجابية، وذلك من خلال إعطاء دفعة هائلة لسبل الدعوة المستقلة، كما رأينا في الحملة التي نُظِمَت على الإنترنت للدعوة إلى حظر الألغام الأرضية والمعاهدة التي صدقت على نجاح هذه الحملة، على الرغم من معارضة البلدان القوية. ولقد ازدهرت العديد من المنظمات باكتسابها القدرة على صياغة النتائج السياسية وتشكيل السياسات العامة.بيد أننا لن نجد في العالم أجمع مكاناً أكثر من الصين توضيحاً للقدرة التحويلية العظيمة المتمثلة في أشكال التواصل الجديدة، حيث يصل عدد مستخدمي الإنترنت في الصين 420 مليون شخص. ومهما كانت السلطات الصينية حريصة على إبقاء الإنترنت تحت سيطرتها- على سبيل المثال من خلال حجب المواقع الأجنبية- فإنها تدرك أيضاً مدى احتياج اقتصاد الصين لشبكة الإنترنت الآن.ونتيجة لهذا فإن مساحة «العمل الجماعي المتضافر» لم تكن في أي وقت مضى أعظم مما هي عليه الآن في تمكين الأفراد في الصين من اكتساب القدرة على الوصول إلى معلومات غير خاضعة للرقابة، وتبادل الآراء، والتواصل على نطاق البلاد بالكامل للكشف عن سوء الإدارة على المستوى الرسمي. ومن المعروف أن ليو شياو بو الحائز على جائزة «نوبل» سُجِن لأنه نشر على شبكة الإنترنت اقتراحه بوضع دستور ديمقراطي حقيقي، أو الميثاق (8) الذي جمع أكثر من عشرة آلاف توقيع على الإنترنت في غضون 24 ساعة فقط.في أواخر ثمانينيات القرن العشرين كان مبدأ «الجلاسنوست»- الشفافية- واحداً من المسامير التي دُقَّت في نعش الاتحاد السوفياتي، ورغم أن «ويكيليكس» لم تؤد إلى تأثير مماثل بكل تأكيد، فإنها نجحت في تجسيد مدى تمكين الفرد في عالم تربطه شبكة واحدة. إن تحدي القوة الأشد عتياً على مستوى العالم لم يتطلب أكثر من وجود محلل استخباراتي عسكري أميركي ساخط، وبعض الخبرة في اقتحام الشبكات، وبضعة أجهزة كمبيوتر، وحفنة من الناشطين من ذوي العزيمة الذين يستظلون براية الشفافية المتنازع عليها.عندما تم تعيين آن ماري سلوتر- الباحثة المحترمة في مجال الشؤون الدولية- مديرة لتخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية، بشرت بجرأة بظهور عالم مترابط متشابك. وفي مجلة الشؤون الخارجية كتبت في شهر يناير 2009: «إن الحرب والدبلوماسية والمال والأعمال والإعلام والمجتمع، كل ذلك يشكل كياناً مترابطاً متشابكا. وفي هذا العالم يصبح مقياس القوة هو الترابط». والواقع أن أميركا التي تتمتع بالقدر الأعظم من القدرة على التواصل تمتلك الآن ميزة هائلة في «قرن تربطه شبكة واحدة».ولقد دفع هذا المفهوم وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في يناير 2010 إلى الإعلان عن «حرية التواصل» باعتبارها المعادل الإلكتروني للحريات الأكثر شيوعاً مثل حرية التجمع وحرية التعبير. وأضافت كلينتون قائلة إن هذه التكنولوجيات ليست بطبيعة الحال نعمة تامة، ومن الممكن إساءة استخدامها لأغراض شريرة، لكن قائمة الانتهاكات المحتملة التي عرضتها لعالمنا المتصل لم تحتو على أي شيء شبيه بعاصفة «ويكيليكس».إن هذه العاصفة لن تخلف وراءها أي أثر للتفهم إذا تم تقييمها في معزل عن أي شيء آخر، بدلاً من تقييمها كجزء من نمط أوسع نطاقا. والواقع أن أحدث المعلومات التي نشرتها «ويكيليكس» تظهر بشكل واضح إن التحول الذي طرأ على القوة والسلطة بفعل «الثورة الرقمية» قد لا يقل بعداً في مداه وتأثيراً من ذلك التحول الذي أحدثته ثورة الطباعة في القرن الخامس عشر. وفي هذه اللعبة، حيث يدعو لاعبون جدد أنفسهم إلى المشاركة فإن التميز يصبح لمن يمتلك القدر الأعظم من خفة الحركة والإبداع.إن كل هذا يعني ضمناً أن الترابط سيظل دوماً بمنزلة سيف ذي حدين، فالنفوذ الذي يوفره حافل بنقاط الضعف، وهذا يعني أننا نستطيع أن نتوقع المزيد من المفاجآت المختزنة لمختلف دول العالم.* بيير بولر ، دبلوماسي فرنسي ومؤلف كتاب «القوة في القرن الحادي والعشرين».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
قوة ويكيليكية
16-12-2010