الأفكار السياسية والأفكار الأدبية والفنية من عائلة واحدة، تخضع لحركة الزمان وتتغير، وإذا كانت جملة أفكار السياسة وأفكار الأدب والفن تتقلب في أهوائها عبر السنوات والعقود، فإنها عبر القرون تتغير من الجذور. وإذا كنت أرى أفكار «الثورة الانقلابية» وأفعالها في السياسة وليدة القرن العشرين الغابر، وان القرن الواحد والعشرين يهيئ لمسار في مفهوم الثورة مختلف وجديد، كذلك أرى أن أفكار «قفزات» الأدب والفن التي تُنكر الجذور، وتندفع باتجاه البكوري والطليعي، هي صنيعة القرن العشرين وأهوائه، وان القرن الواحد والعشرين يهيئ القاعدة لمسار جديد لا يمتثل لفكرة القفزات الطليعية. وأرى أن مفتاح السر في اختلاف التوجه بين القرنين كامن في الموقف من الماضي، ومن المستقبل.

Ad

النزعة الطاغية لتوجهات القرن الغابر اعتمدت إنكار الماضي، ومعانقة المستقبل واستيحائه. تأصل هذا في عالم السياسة والأدب والفن بصورة قاطعة. ولم يفلت من دوامة هذه الحركة إلا المجرى الذي لم ينحنِ بيسر لرياح التاريخ. المجرى الذي بدا وسط دوامة الأهواء هامشياً، أو يكاد. في الشعر رأينا الحركات والتيارات التجريبية البكورية، التي ما إن تستقيم في خطاها حتى تنقلب على نفسها من أجل توجه جديد. والقارئ يحاول الملاحقة، ليحصد حفنة من الفراغ واللاجدوى. حتى حلت قطيعة ليس لها ماض بينه وبين الشعر. على أن المجرى الذي يتحرك تحت دوامة الصخب يتجه إلى المستقبل، مُعبّأ بالماضي.

الأمر لا يختلف في الحقل الموسيقي. فحركات القرن العشرين المتطرفة بقيت قاعات عروضها، إن وُجدت، عارية الكراسي من محبي الموسيقى. وإصداراتها بائرة لا يقربها مُشتر. والفن التشكيلي الذي هجر التشخيص إلى تجريد اعتباطي، وهجر إطارَ اللوحة إلى الفن المفاهيمي وما تجاوزه، انتهى إلى أن يكون سجين أسواق المافيات المالية.

هذه تداعيات وردت في رأسي، وأنا أتجول في قاعات «الأكاديمية الملكية»، وهي تقدم معرضاً حول «فن النحت البريطاني المعاصر». القاعات، باستثناء الأولى، ليست مُكتظة بالأعمال الفنية. تكتفي إحداها أحياناً بأن تنفرد بعمل ضخم واحد. هذا العمل قد يكون تشكيلة من قطع حديد بلون أحمر (أنتوني كارو مواليد 1924). أو مربع ضخم بأسطح مستوية، من بقايا حجارة وأخشاب وخرق (توني كراغ مواليد 1949). أو مرايا ملونة، متعارضة، معلقة بخيوط من السقف. ويُنصح المشاهد بأن يراها من داخلها، علَّ تعارض الألواح حوله يثير فيه شيئاً من إدهاش وعُجب (فِكتور باسمور 1908-1998). أو مستطيل من حجارة طباشيرية، صُفّت على امتداد عشرة أمتار فوق الأرض (ريتشارد لونغ مواليد 1945). أو غرفة زجاجية تحتضن مائدةً وعدداً من الكراسي البلاستيكية. فوق المائدة صحون ببقايا أكل مهجورة متعفنة. وتحت المائدة رأس بقرة مقطوع، وقد تعفّن هو الآخر. وكتلٌ لا تُحصى من ذباب لا يستقر. مشهد كفيل بدفعك إلى التقيؤ (دَميان هيرست مواليد 1965).

الجمهور كان يقطع هذه القاعات بخطى ضاحكة، أو غير مبالية. أو مستاءة أحياناً. في حين تتكاثف الخطى، وتتباطأ في قاعات العرض الأولى، التي كانت تقدم نماذج من النحت واقعية، من مطلع القرن العشرين. ونماذج من مرحلة التحول الخلاق في النصف الأول من ذاك القرن على يد هنري مور وباربارا هيبورث وأبيستاين. هؤلاء جميعاً انطلقوا مشبعين بالموروث، وتأثيرات الفنون العريقة الوافدة من شعوب مختلفة. وقد كان المتحف البريطاني محجتهم في الاستيحاء. في حين انطلقت البقية، لا من فراغٍ فقط، بل من احتقان وإنكار إزاء الماضي، واعتمدوا المستقبل مصدراً للإلهام. والمستقبل تهويم في تجريد خالص.

القرن الجديد يُنبئ بإعادة الاعتبار للموروث. وإعادة الاعتبار للموروث يعني إعادة اعتبار للعقل بالدرجة الأولى. العقل الذي زعم العائمون في تجريد المستقبل انعدام صلاحيته، وأعلنوا تجاوزه بيسر من يعرض مبولة عمومية على أنها عمل فني، ومن يسجل ضجيج طائرة مروحية على أنها عمل موسيقي. هم في هذا لا يختلفون عن عسكري ينقلب بالسلاح على الدستور والقانون ويسميه ثورة، عادة ما تكون مصحوبة بأناشيد تغني، لا الماضي أو الحاضر، بل المستقبل وحده!