عندما يتحدث المسؤولون المصريون والسوريون علناً عن جمود العلاقات بين البلدين، ويبدأ الصحفيون والمحللون السياسيون في الجانبين بالتلاسن، وتعلو أصوات في القاهرة تعاير دمشق بأنها "لم تطلق رصاصة واحدة لتحرير الجولان منذ عام 1973"، وتوجه فعاليات سورية انتقادات حادة لمصر لكونها "تقف مع إسرائيل ضد المقاومة العربية"؛ فتأكد أن العمل العربي المشترك سقط مجدداً في حفرة مظلمة.

Ad

حينما يظهر التوتر المصري- السوري على السطح بعد احتقان صامت طويل؛ فالأرجح أن محاولات عقد مصالحة فلسطينية- فلسطينية حققت فشلاً ذريعاً، والوضع في لبنان وصل إلى مرحلة الانسداد الخطير المنذر بالتفجر، والبلدان يتصادمان في العراق، ولا توجد أي بوادر أمل في حلحلة القطيعة بين مصر وإيران، والآمال تخفت إلى أقصى درجة في تحريك التفاوض الإسرائيلي- السوري، واحتمالات التصادم في المنطقة تتسع إلى حد كبير، وفرص التسوية تتراجع. يجب ألا يستغرب أحد من كون معظم الإشراقات العربية على مدى أكثر من ألف عام لم تتحقق إلا عندما كانت القاهرة ودمشق تعملان معاً؛ فالعاصمتان انطوتا، على مر التاريخ، على طاقة فعل جبارة، وزخم حضاري هائل، وقدرة مذهلة على التفاعل الثنائي الخلاق.

تحققت الإشراقات المميزة في صد الحملات الصليبية، وقهر الغزو المغولي، وأخيراً في حرب أكتوبر 1973، عندما نسقت العاصمتان هجوماً ناجحاً على إسرائيل، أزال مرارة هزيمة عام 1967، وفتح الباب لتحرير سيناء، وأبقى الأمل في تحرير الجولان.

لكن سوء الفهم تعمق بين البلدين قبل أن تنتهى معارك أكتوبر نفسها، وتبادلا اتهامات علنية ومبطنة عن "فرص ضائعة"، و"نوايا مبيتة"، و"تفاوت فى الأداء"، لكن فرحة النصر وحلاوته غطتا على مرارات "الخلاف والعتاب وتناقض المصالح". وما إن بدأت مصر طريقها بمحاولة "الاستفادة السياسية من نتائج القتال"، وفق مفهوم الرئيس السادات ورؤيته ومحددات الوضع الإقليمي والدولي وقيوده آنذاك، حتى دخل البلدان في عداء سياسي سافر، افتقد الرشد والحكمة والخلق الحميد في كثير من جوانبه.

سنوات طويلة ظلت فيها سورية تعيب على مصر "الاستسلام المُذل للعدو، والتخلي عن قضايا الأمة العربية والشعب الفلسطيني، والانفراد بالحل دون بقية الدول التي مازالت أراضيها محتلة"، فيما تأخذ مصر على سورية "عدم إطلاق رصاصة واحدة على إسرائيل في الجولان المحتل، واعتماد اللغة الخشبية والخطاب الحجري، واستخدام الحركات المسلحة في فلسطين ولبنان في حروب بالوكالة لمصلحتها، والفشل في إدارة الصراع، والاكتفاء بمغازلة عواطف العامة في الشارع". ذهبت سورية إلى مدريد، وشاركت فى حرب الخليج ضمن قوات التحالف الدولي، وغيّر الرئيس الداهية حافظ الأسد استراتيجيته، فدخل تحالفاً ثلاثياً، تشكل في محور فريد جمع القاهرة ودمشق والرياض، فعادت العلاقات إلى بعض دفئها، حتى أتى الأسد الابن إلى السلطة، فتعكرت مجدداً على خلفية تصادم المصالح واختلاف الأساليب وعدم توافق الكيمياء.

لم تجد دمشق أفضل من التحالف مع طهران، وتصليب أوراق يمكنها استغلالها عسكرياً بشكل يحقق المصالح السورية دون التورط مباشرة فى حرب لا يمكن حساب نتائجها، وتمثلت تلك الأوراق في "حزب الله" في لبنان و"حماس" في فلسطين.

مصر تعرف ما تريد، وتعرف كيف تصل إليه: "سلام بارد مع إسرائيل، لا يتم تفعيله قبل أن تسوى بقية القضايا العربية تسوية مشرفة"، وهي لا تعتقد أن من الحكمة استدعاء إيران إلى المنطقة وتركها "تعبث بمقدراتها لتحقيق أطماعها التوسعية"، كما لا تصدق أن التسوية يمكن أن تتحقق بالوسائل العسكرية، ولا ترى في تثوير الفصائل والميليشيات واستخدامها سوى دليل عجز الدولة ولعب بالنار.

أرادت مصر من سورية عدم تثوير الجمهور العربي، وترك ورقة لبنان، والمساعدة على إنجاز المصالحة الفلسطينية، ودعم فرص توصل الفلسطينيين إلى إتفاق تسوية مع إسرائيل، وعدم التوسيع لإيران في الخليج والعراق ولبنان وغزة وصولاً إلى حدود سيناء.

وأرادت سورية من مصر تجميد علاقاتها بإسرائيل للضغط عليها، والتخلي عن الاستجابة التلقائية والواسعة للرغبات الأميركية، والالتزام بضرورة اعتماد صيغة التفاوض الجماعي العربي في ملف التسوية، بحيث يذهب الفلسطينيون والسوريون واللبنانيون معاً إلى المفاوضات، حتى يتم التوصل إلى حل جماعي مشرف، عوضاً عن إيجاد حلول على المسارين الفلسطيني واللبناني وترك دمشق مجردة من أي أوراق.

لم يتفق البلدان على طريقة سليمة لإدارة الخلاف، فوّجه الرئيس بشار انتقاداً لاذعاً لـ"زعماء عرب"، اعتبرته القاهرة يستهدف الرئيس مبارك، غداة الخلاف الواسع بين البلدين إزاء العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006، وأحجم الزعيمان عن الالتقاء لسنوات، ووضع كلا البلدين العصا في دواليب سياسات الآخر الإقليمية.

في الأسبوع الماضي، نشرت صحيفة "الحياة" حواراً مطولاً مع الرئيس السوري، وهو الحوار الذي حمل رسالة نقد واضحة من دمشق للمصريين: "لا نريد منكم شيئاً، ولا نعرف ما مشكلتكم". وعلى الفور ردت القاهرة بمقال لرئيس تحرير صحيفتها "القومية" الأولى "الأهرام": "نتوجس منكم لأنكم تعرضون المصالح العربية للخطر عبر علاقتكم بإيران"، قبل أن يرد محلل سياسي سوري مقرب من دوائر السلطة في بلاده: "نقول لمثقفي المقاهي: إذا لم تستح، فاصنع ما شئت"، وهو ما سيفتح الباب حتماً لمزيد من التلاسن والانتقادات المتبادلة، التي ستترك المزيد من الجروح على جسد العلاقات الثنائية، الذي لم يبرأ يوماً من العلل على مدى عقد كامل.

والواقع أن الخلاف المصري- السوري لا يتعلق بـ"العلاقات مع إيران" أو "حماس" أو "حزب الله" أو لبنان أو العراق، ولكنه يتعلق بنظرة كل من البلدين إلى الطريقة التي يحقق بها مصالحه كما يشخصها. وإذا علم البلدان أن مصالحهما الاستراتيجية واحدة، وأنه لا عزة لأحدهما دون أمن يتمتع به الآخر، لوجدا طريقة أفضل في السياسة والإعلام لحسم الخلافات وإدراك المصالح.

وإذا كان العدو والصديق في هذا العالم يعلمان أنه "لا سلام من دون سورية، ولا حرب من دون مصر"، فليس أقل من أن يصدق البلدان الشقيقان هذا، ويعملا به.

* كاتب مصري