«البيوت الدامعة... تطوي تاريخَها»، بهذه العبارة تفتح باسمة العنزي نافذة على مجموعتها القصصية الجديدة «يُغلَق الباب على ضجر»، وبمقدمة أشبه بقصة قصيرة تفتح العنزي باب الأسئلة والتأويل، فالنصوص القصيرة المشغولة بهاجس واحد هو المكان، مدعّمة أيضاً بشخصيات مطحونة ومعذّبة، تتماهى مع المكان حيناً وتنفصل عنه أحياناً أخرى. واللافت من الزاوية التقنية امتزاج الشخصيات وامتدادها من قصة إلى أخرى، وهنا قد تنتقل الشخصية باسمها أو لقبها، إلى قصة أخرى، ليس بالضرورة مكملة لسابقتها، وليس بالضرورة منفصلة عنها، نجد ذلك في قصة «مربط الصقور» وشخصية «بوسند» ذلك الرجل العجوز الذي كان يوماً فارساً جوّاب آفاق يمارس هواية الصيد في البراري الشاسعة. ها هو الآن بيد عاجزة لا تقوى على الامتداد أو تناول كأس الماء.

Ad

تحمل الكاتبة شخصية بوسند معها إلى قصة أخرى هي قصة «الغرفة 37» ليست الشخصية الرئيسية وتأتي في سياق عبارة أشبه بالمقدمة إلا أن سمات الشخصية الرئيسية في القصة أشبه بسمات «بوسند» من حيث العمر والمواصفات الجسدية والنهاية التعيسة.

تتكرر كذلك شخصية «نثّاج» في قصتين متتاليتين الأولى بعنوان «لعنة نثاج»، والثانية «الحاشي»، وتتخذ الكاتبة من مفارقة الاسم وسيلة لمقاربة الأعراف التاريخية، بل ومحاكمة ما يمكن أن يُختزن في الذاكرة منها، فبينما نجد بطل القصة الأولى «حمد» يواجه صعوبات حيايتة بسبب اسم أبيه «نثاج»، بل وترفض الفتاة التي أحبّها الاقتران به بسبب اسم أبيه. نجد «نثاج» ذاته يسدي النصائح ويدعو إلى تستر الفتيات وتمسكهن بالعادات والتقاليد.

تعبث العنزي بنصوصها كثيراً، وتلامس فضاءات التجريب، تلك سمة كانت تلازمها منذ كتابها الأول، «الأشياء» الذي جاء بسمة نصوص قصصية ذات نفس إبداعي مفتوح، بمعنى أنك تجد صعوبة في تصنيفها قصصاً خالصة. وأما في مجموعتها القصصية الثانية التي جاءت بعد توقف عن النشر دام تسع سنوات فقد بدت شخوصها وفضاءات القصصية أكثر نضجاً وتماسكاً، حيث حازت جائزة الدولة التشجيعية. أما في مجموعتها الأخيرة «يُغلَق الباب على ضجر» فقد اختارت أن تولي المكان أهمية كبيرة، وتصطنع خيطاً خفياً يقرّب «الأحجية» إلى الأذهان بقدر ما يخفيها. تقول في المقدمة/ القصة: «وحدهم الضالعون في الحيرة، المغمورون بماء الحكمة، قادرون على فك رموز الأحجية، هم ولا أحد سواهم الجديرون ببوحنا، ورؤية أسرارنا، وقد أخرجناها من علب الاختفاء المخملية، ولأنك منهم – قارئي الاستثنائي- انتظرت لقاءنا بفارغ الصبر، وبيدي طويت ورقة صغيرة مجعدة لما أنوي إخبارك به، وعلى الجهة الأخرى من الورقة دوّنت أيضاً ما لا أنوي إخبارك به، بلغة صعبة لن تلتقطها فراستك بسهولة»

ثمة ما تنوي الكاتبة إخبارنا به، ولكن ثمة أشياء عصية مستخفية، يصعب اكتشافها، وليس صعباً تدارك أن النصوص القصصية تخفي بعض ملامحها، وليس علينا سوى تتبع الشخصيات والمكان، إذ يلفتنا أن تضع الكاتبة لكل قصة عنوانين: العنوان الأول يحوي لازمة ثابتة هي كلمة «منزل» ومعها رقم يتسلسل من 20-31، فمثلاً نجد العنوان التالي: «منزل 20 جنية فرح» ونجد القصة ذاتها تحمل عنواناً آخر «حصة النائية». وبعيداً عن المكان المزدوج وضيقه، وتكدسه بالأشياء، نجد شخصيات مأزومة معقدة تعيش المعاناة بكل أشكالها. فما تراه الرابط بين الشخصيات والمكان، والأرقام المتسلسلة من 20- 31. للكاتبة وحدها أن تخبرنا بذلك.