عطاؤنا الخيري... ضجيج بلا طحن

نشر في 19-09-2010 | 00:01
آخر تحديث 19-09-2010 | 00:01
 ياسر عبد العزيز يأتي شهر رمضان المعظم من كل عام، فيعزز الآمال لدى العرب والمسلمين في إمكان أن يحل العطاء الخيري المنهمر، من كل حدب وصوب، المشكلات الضخمة الناجمة عن تعثر عمليات التنمية، والقابلية الواسعة للتأثر بالكوارث الطبيعية، وتفاقم معدلات الفقر في بلادنا.

ورغم ارتفاع عدد الأغنياء في أوساط الدول العربية والإسلامية، والحض الواضح في الشريعة الإسلامية على إيتاء الزكاة والصدقات في هذا الشهر الكريم وبقية شهور العام، فإن الحصيلة الحقيقية للعطاء الخيري لا تسد الاحتياجات المتنامية، ولا تحل المشكلات المتفاقمة.

عندما ضرب إعصار تسونامي دول جنوب شرق آسيا في ديسمبر من عام 2004، سارع الشعب الألماني إلى جمع التبرعات لمساعدة المنكوبين بتلك الكارثة الطبيعية المروعة، ليجمع في مدة قليلة نحو مليار يورو، كان لها أثر مهم في احتواء الأزمة العنيفة وسد احتياجات المتضررين.

لطالما عُرف الشعب الألماني بحسه الخيري تجاه منكوبي الكوارث والمتضررين بالجوع والاحتياجات الحياتية في مناطق العالم المختلفة؛ فقد تبرع أيضاً بنحو 75 مليون يورو لمساعدة منكوبي زلازل الهند وباكستان في أكتوبر 2005، و30 مليون يورو لمتضرري زلازل الصين في يناير 2008، و45 مليوناً لمساعدة ضحايا زلزال هايتي مطلع العام الجاري.

لكن شيئاً ما حدث فقلص تبرعات الألمان لمنكوبي الأحداث المأساوية التي ضربت باكستان أخيراً، فقد وجه السفير الباكستاني في برلين نداء للرأي العام الألماني لتقديم إغاثة عاجلة تساعد بلده في مواجهة الكوارث التي اجتاحت المناطق الوسطى والشمالية الغربية، وتسببت في مصرع 1600 شخص وتضرر عشرون مليونا آخرون، بيد أن استغاثة السفير لم تلق سوى استجابة محدودة حيث بلغ إجمالي ما تبرع به المواطنون الألمان 16.4 مليون يورو.

وأظهر استطلاع للرأي تخوف شرائح واسعة من الألمان من عدم وصول تبرعاتهم إلى المنكوبين الحقيقيين واستقرارها في النهاية بأيدي حركة "طالبان" أو المسؤولين الباكستانيين "الفاسدين".

وعزز الإعلام الألماني مخاوف مواطنيه بحديثه عن اختفاء 376 مليون يورو من أموال المساعدات الدولية التي جمعت لمساعدة باكستان على مواجهة تداعيات زلزال 2005.

يظل الفساد وتخوف المتبرعين من وصول تبرعاتهم إلى غير مستحقيها أحد أهم العوامل التي تؤثر في حجم العطاء الخيري للعالمين العربي والإسلامي ونوعه وفاعليته.

فثمة نحو 300 ألف مليونير في الشرق الأوسط؛ ومع ذلك فإن 37 في المئة من سكان العالم الإسلامي يعيشون تحت خط الفقر، ويمثلون نحو 39 في المئة من إجمالي فقراء العالم.

لا يبدو أن ارتفاع عدد منظمات المجتمع المدني والجمعيات العاملة في مجالات العطاء الخيري انعكس في بناء منظومة اعتماد يمكنها أن تسهم في حل مشكلات الفقر والحاجات المتنامية للمعوزين في العالمين العربي والإسلامي لأسباب عديدة.

ليس الفساد وتردي كفاءة المنظمات الحكومية وغير الحكومية العاملة على تلقي التبرعات واستخدامها السببين الوحيدين في تردي فاعلية العطاء الخيري، لكن ثمة أسباب أخرى؛ لعل أهمها اتخاذ نسبة كبيرة من التبرعات أشكالا تتوسل المباهاة والزهو والرياء، أو تركيزها الواضح على بناء دور العبادة أو إقامة "موائد الرحمن" أو سد الاحتياجات المباشرة من مأكل وملبس بغرض جذب الانتباه والحصول على تقدير المجتمع.

ولذلك فإن مظاهر العطاء تتكثف، وأعداد المعوزين تتزايد، لكن الإنفاق لا يرتفع إلى المعدلات المطلوبة، كما أن فاعليته تتناقص.

تفيد الدراسة السنوية التي تعدها مؤسسة عطاء أميركا Giving USA Foundation، أن حجم العطاء الخيري الأميركي سجل 229 مليار دولار  في عام 2006، وهو الرقم الذي ارتفع حسب تقديرات "مركز أبحاث الثروات والعمل الخيري"، التابع لكلية بوسطن، في الولايات المتحدة الأميركية، في العام الماضي 2009 إلى نحو 250 مليار دولار، على عكس العطاء الخيري الإسلامي، الذي يتباطأ وتتراجع فاعليته.

يتزايد العطاء الخيري الأميركي ويكاد يساوي نظيره في دول العالم مجتمعة، ويجمع الألمان مليار يورو في أيام قليلة لنجدة منكوبي "تسونامي" من دون ضجيج ولا مباهاة ولا حض واضح والتزامات صارمة في الشريعة والنسق الديني.

وتقدر بيوت المال العالمية ثروات أغنياء العالم الإسلامي بما يفوق التريليون دولار من دون أن ينعكس ذلك في عطاء خيري يحد من نسب الفقر المتفاقمة، ويؤمن الغوث لمنكوبي الكوارث الطبيعية، ويحسن معدلات التنمية المتدنية.

ثمة ثلاثة استراتيجيات للعطاء الخيري يعرفها العالم المتقدم؛ أولاها تتعلق بالإغاثة والرعاية، وتعتمد على منح أموال سائلة أو طعام أو مساعدات عينية لغوث محتاج، وهي تبرعات تقدم حلولاً مؤقتة للمشكلات، وتحاول معالجة أعراض الفقر دون تقصي العوامل الاجتماعية التي أنتجته، الأمر الذي يسهم في تكريسه وإدامته لا القضاء عليه.

وثانية تلك الاستراتيجيات هي استراتيجية الاعتماد المحلي على الذات، حيث تُستخدم التبرعات في تنمية المجتمعات المحلية وقدرة الاعتماد على الذات لدى المحتاجين؛ أي "بدلاً من أن تعطني سمكة، علمني كيف أصطاد"، وهو ما لا توفره صدقات الطريق ولا "موائد الرحمن" ولا التبرع بالملابس وسد الاحتياجات العاجلة.

أما الاستراتيجية الثالثة، فهي استراتيجية تنمية النظم المستدامة، التي تقوم على سياسات الاستمرارية، والانتشار، والأثر، واستعادة المصروفات الجارية، واستخدام التبرعات في تحقيق التنمية الشاملة والمتوازنة؛ كالمشروعات الصناعية والبيئية المتكاملة، ومحو الأمية، ونظم العلاج والضمان، والإنفاق على البحث العلمي والتطوير، وهو ما لم نفعله أبداً.

ولذلك فإن الدراسات تؤكد أن برامج التنمية التي تسهم الجمعيات الخيرية في البلدان العربية فيها لا تتعدى 15 في المئة من إجمالي أنشطتها، رغم أنه من المفترض أن تصل تلك النسبة إلى 60 في المئة على الأقل.

تعزز أنشطة العطاء الخيري العربي والإسلامي الأمل في استعادة مجتمعاتنا لحمتها وتماسكها وتكافلها الاجتماعي، وتكرس القيم الإسلامية النبيلة المتعلقة بالتكاتف والتراحم والمسؤولية الاجتماعية بين المسلمين، وتسد ثغرات الفقر والعوز التي عجزت الحكومات عن التعاطي معها، لكنها مع ذلك تظل أقل مما يجب كماً ونوعاً وفاعلية، وأكثر مما يجب مباهاة ومظهرية ورياء.

وإلى أن يتناسب حجم عطائنا الخيري مع ما يكتنزه أغنياؤنا من ثروات، وتظهر الدولة العربية والإسلامية ومنظمات المجتمع المدني بها رشداً ونزاهة في استخدام التبرعات، وتتوجه تلك الأموال إلى العمل باستراتيجية تنمية النظم المستدامة، فسنظل نسمع لعطائنا الخيري ضجيجاً ضخماً ونجني منه القليل من الطحين.

* كاتب مصري

back to top