كنت ولاأزال وسأظل دائماً، أقيّم الناس بأفعالهم لا بأشكالهم، بمخابرهم لا بمظاهرهم، بمواقفهم لا بكلماتهم، لا يعنيني حديثك عن الأخلاق ما دمت لا تملك ذرة منها، ولا أكترث بمواعظك عن الإيمان مادمت لا أجد له أثراً في سلوكك، لا يهمني كم ركعة تركع لله كل يوم ما دمت تركع لغيره أكثر، لا أكترث إن كنت ترتدي "الجينز" و "التي شيرت" وتسرح شعرك على الموضة أم كنت ملتحيا تقصر ثوبك وتمضغ سواكك قدر اكتراثي برقي تعاملك مع الناس والتزامك بالقانون، واحترامك للصغير والكبير على حد سواء، صوت الخير والحب والرحمة الذي في داخلك هو الذي يفرض عليّ احترامك، وضميرك الحي ذلك الذي يسكن جنبيك ويرغمك على تجنب الظلم والكذب والسرقة والفساد بأشكاله كافة هو الذي يجعلك كبيراً في عيني، و"أن تعبد الله كأنك تراه... فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، هو ما يجعلك رجلاً صالحاً وفاضلاً في عيني وفي عيون الناس.

Ad

قرأت مرة لكاتب أميركي اسمه "بن ويكس" قصة مؤثرة حدثت له في طفولته... يقول فيها:

(في بلدة "كيلس" الصغيرة جنوب شرق بولندا، حيث ولدت، كانت مجموعة من الغجر تمر بالبلدة، وإذا بها تقف عند بئر تقع في فنائنا، كنت حينها في الخامسة من عمري، وقد سحرني واحد من الغجر بصفة خاصة، فقد كان عملاقاً مرعباً، رحت أراقبه وهو يجذب ملء دلو من ماء البئر ليشربه وقدماه منفرجتان، وقد سال بعض الماء على لحيته القصيرة الشعثاء فيما كانت يداه ذات العضلات القوية تمسكان بالدلو الخشبية الكبيرة على شفتيه، وكأن الدلو الثقيلة لا تزن أكثر من فنجان شاي بالنسبة له!

فلما انتهى من الشرب، تناول وشاحه الحريري المتعدد الألوان ومسح به وجهه، ثم انحنى وأخذ يحدق في أعماق البئر، فدفعني الفضول إلى أن أحاول تسلق حافة البئر الحجرية لأرى ما الذي ينظر إليه، ورآني العملاق فابتسم، ثم حملني بين ذراعيه وسألني قائلا: هل تعرف يا بني من الذي يسكن أسفل هذا البئر؟ فهززت رأسي نفياً، فأجاب: إن الله يسكن هناك... انظر!

وأمسك بي فوق حافة البئر، وهناك، في الماء الساكن كالمرآة، لم أر سوى انعكاس صورتي، فصحت قائلاً: "ولكن هذا أنا"... فقال الغجري وهو ينزلني على الأرض برفق: "أجل... والآن أظنك عرفت أين يسكن الله")... انتهى.

والمعنى في قصة "ويكس" أن الله ليس موجودا في دور العبادة فقط، حيث الركوع والسجود والمواعظ والخطب التي تلهج بالدعاء له خوفاً وطمعاً، ثم وهي تدعوه للانتقام والثأر من الأعداء، لكنه موجود قبل هذا في القلوب والضمائر، في أن يستشعر المؤمن وجوده في كل لحظة وفي أي مكان، الإيمان بالله هو أن يكون للإنسان ضمير حي، يمنعه من ظلم الناس والإساءة إليهم، ويدعوه إلى عمل الخير والمعروف، يحببه في الحلال ويجنبه الحرام، موجود في الضمير الذي يسكن القلوب ويشير إليها أين الصواب وأين الخطأ، ولذلك "استفتِ قلبك"... وبناءً على وجود الضمير فإن "الحلال بيّن... والحرام بيّن" ولا حاجة لك بسؤال المفتي عن كل صغيرة وكبيرة.

أهل الضمائر هم أهل الجنة وهم من يستحقونها، أهل القلوب والأيادي البيضاء، أهل الخير والمعروف والحب والرحمة، ليسوا أهل الأثواب القصيرة أو الطويلة، ليسوا أهل الذقون الحليقة أو الملتحية، أهل الجنة هم أهل "القلوب السليمة" مهما اختلفت أشكالهم وتباينت صورهم وتعددت أعراقهم، جعلنا الله جميعا من أهل الضمائر الحية والقلوب السليمة... قولوا "آمين"!