يُعتبَر خطأً شائعاً القول إن ثمّة حرباً واحدة جارية في أفغانستان، فالحقيقة تشير إلى أن ثلاثة صراعات على الأقل تدور رحاها في الوقت عينه، ما يفسّر السبب وراء قلة الإنجازات خلال السنوات التسع.
ما نشاهده على شاشات تلفزيوناتنا قتال القوات بقيادة الولايات المتحدة ضد "طالبان". يزوّدنا ذلك بالصور، ويجعلنا نتأثر بالضحايا بين الجنود والمدنيين ونتعاطف معهم، ويطلعنا على البيانات التي يدلي بها الجنرالات بالأهمية التي تعكسها ميدالياتهم وبزّاتهم.عبّر الجنرالات طوال هذا الأسبوع عن آرائهم وقدموا وصفتهم للنجاح: وقت أطول ودعم سياسي أقوى.في هذا الإطار، قال الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوات الدولية في أفغانستان، إنه بفضل دفعة جديد من القوات، تمكن من "إبطال الزخم" الذي راكمته حركة "طالبان" جنوبي البلاد.من جهته، يعارض قائد القوات البحرية الأميركية، الجنرال جيمس كونواي الذي يتصف بجرأة الكلام، علناً خطط الرئيس باراك أوباما لسحب القوات في بداية العام المقبل، وقد لفت إلى أن مشاة البحرية لن يسلّموا ملف الأمن للجيش الأفغاني في العام المقبل، أو في أي وقت قريب. فعلى حد قوله، "إما أن نخسر بسرعة، وإما أن ننتصر ببطء".بالنسبة إلى الجيش، من الواضح أن هيبته والميزانيات المخصصة له تتطلبان منه العمل من أجل النصر، على الرغم من النموذج المُحبط في العراق حيث انسحبت قوات القتال الأميركية لتوها من دون هزم المتمردين أو إحلال الاستقرار السياسي.أما المعركة الثانية في أفغانستان فهي ذات طابع مدني وهدفها إنشاء قيادة ثابتة يستطيع الأميركيون وضع البلاد في عهدتها عند مغادرتهم. ويرمي هذا الصراع، الذي يُخاض سراً، إلى تحويل مجتمع قبلي فوضوي إلى دولة حديثة نوعاً ما، ويُعتبر الرئيس حامد كرزاي محوره. أزاح تقرير مثير للدهشة نُشر في صحيفة "وول ستريت جورنال" الستار عن المشاكل المرتبطة بمحاولة جعل حامد كرزاي قائداً وطنياً من النوع الذي ترغب فيه الولايات المتحدة. يُظهر هذا التقرير كرزاي كشخص متقلب المزاج، عديم الثقة بنفسه، وخاضع لنوبات عاطفية لا تُخمَد إلا بتدخل رئيس محطة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إي) في كابول، الذي يوصَف بكونه "الغطاء الأمني" للرئيس. رئيس محطّة الـ"سي آي إيه" هذا ليس من أولئك المتخرجين من رابطة "آيفي" المحبوبين في هوليوود والذين يفعلون عكس ما يقولون، بل رجل عسكري واثق بالنفس وقادر على إنجاز ما بدأه. خدم في البحرية الأميركية، وانضم في سبعينيات القرن الماضي إلى وحدة العمليات شبه العسكرية التابعة للـ"سي آي إيه". وفي ديسمبر 2001، كان حاضراً وكرزاي في أحد الاجتماعات مع زعماء القبائل حين قصفتهما الولايات المتحدة من دون أن تعلم بوجودهما. فقفز ذلك الرجل الاستخباراتي على الرئيس المستقبلي لحمايته، وعلى الرغم من أنه لم ينقذ حياته بمعنى الكلمة، فإنه أنشأ رابطاً دائماً معه.ما من شخص كامل الأوصاف، لذا من السهل إظهار رئيس على أنه ضعيف وعالة على الآخرين حين تسوء الأمور. فلو أن بريطانيا هُزمت على يد ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، لبدا وينستون تشرشل في ذاكرة التاريخ شخصاً مكتئباً مدمناً على الكحول، لكن عيوبه هذه مُحيت كونه قاد بلاده إلى النصر.لذلك لا يمكن خوض الحرب التي يواصلها الجنرال بترايوس في ظل فراغ سياسي، ومن هنا تبرز أهمية شخصية كرزاي. فمن دون قائد قوي، وحكومة فعالة، وجيش موثوق، ستذهب دماء الجنود الأميركيين هدراً.في المقابل، المعركة الثالثة مألوفة، عبارة عن مواجهات بين مراكز القوة في واشنطن حول وجهة السياسة في أفغانستان. بدأنا نشهد مسبقاً معارضة الجيش للخطط التي وضعها أوباما بسحب القوات في العام المقبل قبل بدء حملته لإعادة الانتخاب في عام 2012. أما المثال المؤسف الآخر عن التجاذبات المختلفة الاتجاهات في واشنطن فقد ظهر حديثاً. تحاول إدارة أوباما الحد من الفساد المستشري في الحكومة، وقد أنشأت وكالات مستقلة لمكافحة الوسائل غير المشروعة. بحسب التقديرات، ينهب السياسيون، وأسياد الحرب، وكبار تجار المخدّرات كل عام مليار دولار على الأقل من البلاد. يُشار إلى أن العملاء الاستخباراتيين الأفغان، اعتقلوا بالتعاون مع الولايات المتحدة، أحد مساعدي كرزاي، محمد ضيا صالحي، الذي يُقال إنه سعى إلى الحصول على رشوة لإعاقة مسار التحقيق في عملية تهريب أموال ناجحة. لكن كرزاي ألغى قرار اعتقال صالحي الذي أُفرج عنه بنتيجة الأمر، ما أثار انزعاجاً كبيراً في واشنطن. وفي تحول جديد، أفادت صحيفة "نيويورك تايمز" أخيراً بأن صالحي يتلقى راتباً من الـ"سي آي إيه" منذ سنوات. من الواضح أن ضم رجال نافذين إلى صف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أهم، في نظر هذه الأخيرة، من أي نضال نبيل ضد الفساد.يذكّرني الوضع الراهن بما عايشه الروس في السنوات الأخيرة من احتلالهم المشؤوم لأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. فقد نصّبوا بابراك كارمال الراحل (والذي بات في طي النسيان اليوم) رئيساً، مصدرين أوامرهم بنشر المبادئ الشيوعية في أنحاء البلاد كافة، لكن ذلك لم يزد حركة التمرد ضد الاحتلال السوفياتي إلا حماسةً. بدأ الكرملين عندئذ يفقد ثقته بكارمال، واصفاً إياه بـ"عديم القيمة". في المقابل، بدأ كارمال ينتحب أمام أسياده ويحتج: "أنتم من جئتم بي، لذا عليكم حمايتي". لذلك استبدل الكرملين، خلال بحثه مسألة سحب وحدات الجيش السوفياتي الأربعين، كارمال برجل ذي سطوة، رئيس الشرطة السرية نجيب الله الذي روّج للعقيدة الشيوعية وأثبت على نحو مفاجئ براعته في قتال المجاهدين، إلى أن توقف الروس عن إمداده بالأسلحة والنفط.لست أقارن بين شخصيتَي كرزاي والرفيق كارمال. فأنا لم ألتقِ أياً منهما على الرغم من أنني أذكر الاحتفال بكارمال كمخلّص أفغانستان خلال زيارته موسكو في عام 1980.المسألة ليست مسألة شخصية، بل للأسف عملية محتّمة. ففي أفغانستان التي تُعرَف بميلها الشديد إلى الاستقلال وما يُعرَف بـ"ثقافة الاستقلال المفترس"، ستتراجع هيبة القادة الذين يبقون في السلطة بفضل القوى الأجنبية ودعمها، وبالتالي تصعب معرفة كيف يمكن الدمج بين تلبية متطلبات المحتل والحفاظ على ثقة زعماء القبائل.لابد من الرهان إذن على انسحاب كرزاي، وشغل رئيس أفغاني جديد، عاجلاً أم آجلاً، الفراغ السياسي الذي يقاتل ضمنه رجال بترايوس، ذكوراً وإناثاً.* الان فيليبس | Alan Philps
مقالات
الأميركيون منقسمون بشأن الحرب... والنصر احتمال بعيد
01-09-2010