غزوة استوكهولم الفاشلة
فجر سيارة مملوءة بأنابيب الغاز والمسامير ثم فجر نفسه في الحي التجاري في استوكهولم، كان يحمل حقيبة متفجرات على ظهره ويلف حزاماً ناسفاً حوله، ساعياً لتفجير نفسه بين أكبر تجمع أتى للتسوق لأعياد الميلاد في العاصمة السويدية، ولسوء حظه لم يفلح في التعامل مع المتفجرات فقتل نفسه، من هذا الانتحاري؟إنه شاب في الثامنة والعشرين، سويدي الجنسية ومن أصل عربي، هاجر في العاشرة من عمره مع عائلته إلى السويد لاجئاً، فاحتضنته ومنحته الجنسية والراتب، نشأ وتعلم في مدارسها وأمضى شبابه فيها، كان محباً للحياة ومندمجاً، ثم بعثته السويد 2001 لاستكمال دراسته في الطب الرياضي بجامعة بدفورد شاير بمدينة لوتن البريطانية، وتخرج عام 2004 حيث تعرف على زوجته التي كانت تحمل الجنسية السويدية ومن أصل عربي، تدرس هناك، تزوجها وخلف منها بنتين: 4 سنوات، سنتان، وطفلاً: 4 أشهر. ويبدو أن المناخ العام بالمدينة أعجبه فأقام فيها وعمل بائعاً للموكيت والسجاد، وكان يتردد على مسجد صغير ويعتكف العشر الأواخر فيه، كان ودوداً ومتعاوناً يعد لرفقة المسجد الشاي بعد المغرب ويستمع إلى مواعظ الإمام، وقبل 3 أسابيع اختفى ليظهر في استوكهولم مفجراً نفسه، ومات قبل أن يكمل الـ29 تاركاً وصية تنضح كراهية!
هذه الحادثة المأساوية تكررت كثيراً وفي مناطق عديدة من العالم، وهي تطرح العديد من التساؤلات المقلقة والمحيرة: كيف تحول هذا الشاب المرح إلى شاب متعصب كاره للحياة؟ لماذا تنكر هذا الشاب الملتزم دينياً لجميل بلده السويد؟ ولماذا يستهدف قتل أكبر عدد من الأبرياء وفي يوم فرحتهم باستقبال أعيادهم؟ وما دور الجاليات الإسلامية وأئمة المساجد في الغرب في حماية الشباب المسلم ضد آفات التطرف؟ وما دور البيئة المتطرفة التي عاش فيها هذا الشاب في انحرافه؟ وما مسؤولية زوجته المتعلمة والحاصلة على ماجستير في علم النفس التربوي في ترشيد سلوك زوجها وفي تحبيبه في الحياة؟ ولماذا تستمر ظاهرة المفجرين الانتحاريين؟دعونا نحاول الإجابة عن بعض هذه التساؤلات: تعتقد عائلة الشاب الانتحاري أن التحول الذي طرأ على ابنهم حصل بعدما ذهب إلى بريطانيا للدراسة، ففي مدينة لوتن التي تعد مركزاً لأكبر عدد من المتطرفين المسلمين تغير هذا الشاب وأطلق لحيته والتزم دينياً بشكل متطرف لدرجة أن أبا زوجته قاطعه منذ 3 سنوات، وهذا ما يفسر تفضيل الانتحاري العيش في هذه المدينة بدليل أنه لم يرجع إلى السويد للعمل في تخصصه رغم أنها صرفت عليه، فضل العمل بائعاً للسجاد حتى يكون على مقربة من رفقاء التطرف، وهذا يؤكد صدق الاتهامات الموجهة إلى بريطانيا والتي على امتداد عقود اتبعت سياسة التسامح مع المتطرفين الإسلاميين، احتضنتهم ومنحتهم اللجوء والرواتب والتأمين الصحي وأطلقت أيديهم ليبثوا طروحهم التحريضية حتى سميت لندن بـ"لندنستان" لأن كبار رموز التطرف كانوا يحتشدون فيها. وقد ثبت خطأ هذه السياسة المبنية على أساس واهٍ، وهو الاعتقاد بأن سياسة التهاون مع المتطرفين يمكن أن تضمن كسبهم ويجنب بريطانيا انتقامهم، وثبت عقمها لأن بريطانيا أول دولة أوروبية تحصد ثمار هذه السياسات: هجوم إرهابي في 7/7/2005 وما تلاها في سلسلة العمليات كان آخرها اعتقال 12 معتقلاً في 4 مدن بريطانية كانوا يعدون لعملية قبل أعياد الميلاد، واعترف رئيس الوزراء كاميرون بالتقصير أمام البرلمان، وتساءل بحيرة: لماذا أصبح عدد كبير من الشبان في بلدنا متطرفين؟!أتصور أن إجابة هذا التساؤل تقع على عاتق الجاليات الإسلامية أولاً، ثم هي من مسؤولية أئمة المسلمين في الغرب، الذين يتولون مهمة التثقيف الديني للشباب المسلم، جهود هؤلاء مازالت قاصرة بدليل تناسل خلايا الإرهاب واستمرار العمل الإرهابي، فانتحاري استوكهولم كان يحضر دروس إمام مسجد لوتن وكان الإمام يعرف الأفكار المتطرفة للشاب، كان كثيراً ما يعارض الإمام ويتحدث عن "القهر الذي يعانيه المسلمون من قبل حكامهم"، وكان يعرف ارتباطاته بما يسمى الدولة الإسلامية بالعراق والتابعة لـ"القاعدة"، كما كانت زوجة الانتحاري والأصدقاء يعرفون توجهاته المتشددة ومع ذلك لم يقم أحد منهم بإبلاغ الأمن عنه! لعلهم لو فعلوا لجنبوا الانتحاري قتل نفسه وحرمان أطفاله من أبيهم، لماذا لم يحاول الإمام احتواءه وإصلاحه بدلاً من منعه من حضور الوعظ؟! لو كان هذا الانتحاري ابنه وعجز عن إصلاحه، أما كان سيخطر المسؤولين لاعتراضه كما فعل أبو النيجيري عمر الفاروق؟! مشكلة المسلمين في الغرب هي نفس مشكلتهم في أوطانهم الأصلية، يلتمسون المعاذير والتبريرات للمتطرفين، يتعاطفون معهم سراً فيرفضون التبليغ عنهم بحجة أنهم إن أخطؤوا الطريق إلا أن نياتهم خالصة لوجه الله تعالى، وأن لهم مبررات سياسية فيما يقومون به! كالقول إن السياسة الخارجية للغرب ضد المسلمين، "التبرير أعظم إثماً من "التفجير" وهو الذي يمد في حياة الإرهاب ويضمن استمراره وازدهاره ويجتذب إلى صفه المزيد من شباب المسلمين المضللين، وهو ما صرح به الانتحاري عندما برر عمله بأنه من أجل الانتقام من السويد التي تشن حرباً على المسلمين في أفغانستان والرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأيضاً علل وصيته الصوتية بالقول: قولوا لأولادي إنني أحبهم وإن أباهم لم يرض بالاستكانة وهو يشاهد الخنازير يذلون نبينا عليه الصلاة والسلام!"التبرير" المضلل والمخادع هو "الإثم الأعظم" لأنه أولاً: السويد مجتمع متسامح مع المسلمين والأكثر منحاً لحق اللجوء لهم، ولا تاريخ استعماريا لها مع المسلمين، وهي متعاطفة مع القضايا العربية وبوابة الاعتراف الأوروبي المبكر بالقضية الفلسطينية كما أن قواتها لا تشارك في العراق، والـ481 جنديا الموجودون في أفغانستان لا يشاركون في الحرب بل يقدمون خدمات إنسانية للأفغان مثل الخدمات الطبية والعلاجية. أما الرسوم الكاركاتيرية فالسويديون هم أول المستنكرين فضلاً عن وجود وسائل قانونية لمقاضاة المسيئين، وعلى افتراض أن الدولة مسيئة: ما ذنب الأبرياء من النساء والأطفال الذين أتوا للتسوق بمناسبة أعياد الميلاد؟! ولماذا الإصرار على قتل أكبر عدد من الناس ومن غير تمييز؟!كتب أحدهم منتقداً استنكار التفجيرات ضد المدنيين بحجة أن القوات الغربية والأميركية في أفغانستان تقصف المدنيين بالصواريخ، بل- بحسب تعبيره- تشوي أجساد الأطفال والنساء والشيوخ وحتى المواشي، وتساءل باستنكار: هل دماؤنا من ماء؟! إنه نفس "التبرير" الزائف الذي يتردد في جانب من الخطاب الإسلامي السياسي والقومي، حين يتحدث عن الظلم الاستعماري التاريخي وعن التآمر الغربي ومخططات الهيمنة الأميركية والاستباحة والصليبية الحاقدة... إلخ... وهب أن كل ذلك كان صحيحاً: فهل هذا يكفي مبرراً لقتل أكبر عدد من الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالسياسات الخارجية لدولهم- عن قصد وتعمد؟! من يرددون هذه التبريرات والذرائع يتجاهلون تعاليم الجهاد في الإسلام وآدابه ومحرماته، وهم بذلك لا يسيؤون إلى المسلمين فحسب بل يحمّلون ديننا وزر جرائم إرهابية بتبريرات ساقطة، إن معلم التبرير الأعظم هو إبليس حين رفض السجود بحجة واهية، وهؤلاء إنما يستمدون تبريراتهم الواهية منه.* كاتب قطري