علمانية منقبة
ما إن نشر خبر تطبيق منع النقاب في فرنسا، حتى انهالت الأسئلة الشامتة بالفكر العلماني: «أهذه هي الدولة العلمانية التي تدعون؟ ها هي تعتدي على حريات الآخرين في ممارسة عقائدهم الدينية». وقبل الحديث عن الحالة الفرنسية تحديداً، أود «التعريج» على مفهوم العلمانية الذي يتعرض كل يوم لتشويه فاضح من قبل الكهنوت الإسلامي المعاصر. يعرف الزميل والمفكر فاخر السلطان العلمانية على أنها «تعني فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية (وليس الدين عن السياسة) والفصل بين رجل الدين ورجل السياسة، والعكس صحيح أيضاً، أي إبعاد المؤسسة السياسية عن التأثير في المؤسسة الدينية، وإبعاد رجل السياسة عن فرض ميوله الدينية». لذا، فإنه «يحظر على الدولة والحكومة أن تحابي ديناً معيناً حتى لو كان معتنقوه يشكلون الأغلبية في هذا البلد، أو تميز ضد دين آخر حتى إن كان عدد أتباعه لا يزيد على عدد أصابع اليد الواحدة». وعليه فإن العلمانية في جوهرها تحمي الأديان من تعسف الدولة، كما تحمي الدولة من هيمنة فكر ديني واحد، هي في حقيقتها تحمي مبدأ التعددية وتهاجم بشراسة التفرد التشريعي العقائدي.
فرنسا وتركيا ليستا المثالين الأفضلين للدولة العلماينة الحقة، فالظروف السياسية والتشكيل الديموغرافي للبلدين جعل مخاوفهما تطغى على المثالية العلمانية التي عانت أوروبا الأمرّين من أجل تثبيتها في القرن السابع عشر. حوارات ومخاوف هذين البلدين تنتشر بقوة في قارة أوروبا بأكملها، إذ فرض سؤال ملح نفسه على القيادات الأوروبية: هل انقلبت مبادئ العلمانية والليبرالية علينا، وترسخت أسلحة في أيادي أعدائنا؟ هذا سؤال فلسفي في جوهره، بقائي في أهدافه، يحتاج إلى وقفة جادة لمعالجة إجابته دون التعدي على جوهر الليبرالية والعلمانية ودون الإضرار في ذات الوقت بمكتسبات النهضة الأوروبية، فمسلمو اليوم، وتحديداً المتطرفون، الذي يعانون قمعاً شديداً في دولهم، يهاجرون إلى الدول الأوروبية من خلال «منفذ» الليبرالية والقيم الإنسانية التي بنيت عليها الحضارة الأوروبية، ومن ثم يدورون بسهامهم على هذه الدول الحاضنة، بل على المبادئ التي «ختمت أذون» دخولهم أساساً.ومع ذلك، فإنني لا أجد من هذه المخاوف، بالرغم من أحقيتها، وازعاً كافياً للتعدي على الحقوق المدنية التي تكفلها المبادئ العلمانية في الدولة، ففي رأيي، أن تعاني الدولة بعض نتائج العلمانية والليبرالية المتوقعة، مثل معاناة فرنسا وبريطانيا تحديداً من تطرف بعض المسلمين على أراضيها، خير ألف مرة من معاناتها اللاحقة بسبب قرارات تفتقر لليبرالية الحقة محولة علمانيتها إلى دكتاتورية، ففي حين أجد منع النقاب في فرنسا قراراً شجاعاً أتمنى تعميمه على بقية دول العالم، أجد منع الحجاب قراراً دكتاتورياً فاحش التعدي على الحق الإنساني في ممارسة العقيدة. ما الفرق؟ يتأصل الفرق في المفهوم الليبرالي الذي هو جوهر الممارسة العلماينة، وفي ذلك يقول تركي الحمد «الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد طالما أنه لم يخرج عن دائرته الخاصة من الحقوق والحريات، ولكنها صارمة خارج ذلك الإطار»، إذن، وفي حين يبقى الملبس في داخل الدائرة الخاصة للفرد إلا أن إخفاء هذا الملبس لهوية الإنسان الأساسية، ألا وهي وجهه، ميسراً التخفي على من في نفسه غرض، يخرج الملبس خارج الإطار الخاص إلى العام، عندها يصبح المنع حاجة أساسية أمنية للمجتمع والدولة بأكملها كمؤسسة تسعى إلى حفظ الأمن من خلال التعرف الشخصي والدائم على أفرادها وفي أي وقت. أما الحجاب، فقصته مختلفة، ففي حين أنه يمثل ممارسة دينية قد يقرؤها الغرب على أنها قامعة للمرأة، فإنها لا تمثل تهديداً لمحيطها، وعليه، خصوصاً إذا كفلت لها الدولة حق الاختيار والحماية من الإجبار على هذه الممارسة، يبقى الحجاب في إطار الحرية الشخصية التي ليس للدولة أن تتعدى عليها. ولكن، وهنا معضلة إسلاميينا السياسيين، حرية الممارسة الدينية في الفكر الليبرالي تأتي في «صرة واحدة» مع كل الحريات الأخرى التي منها حرية البحث والنقد لهذه الممارسات الدينية بحد ذاتها.وعليه، فإن التزام الدولة بإباحة المعتقدات والممارسات الدينية كافة واحترامها، يفرض عليها كذلك الالتزام بإباحة الدراسات النقدية المواجهة كافة لهذه المعتقدات والممارسات، إذ عندها، وعندها فقط، يكون للإنسان حق أصيل في الاختيار مبني على المعرفة وليس التغييب والترهيب، فكما يسمح بلبس الحجاب بل الدعوة إليه إعلامياً ومن خلال المطبوعات، بل المناهج المدرسية عندنا في الكويت على سبيل المثال، فإنه يجب السماح بالدراسات المضادة أن تأخذ حيزها بذات الحرية وفي ذات الوسائل الاتصالية الاجتماعية. تلك هي الليبرالية الحقيقية، أحياناً نتائجها مؤلمة، وأحياناً تعرض الإنسان لما لا يرغب، ولكنها الضامن الحقيقي والفاعل لمجتمع مستقر يشعر أفراده فيه بالتساوي في حرياتهم وفي علاقة الدولة بهم، ودون هذه الحريات المكفولة التي تضمنها ليبرالية حقة تصبح الدولة دكتاتورية جملة واحدة، سواء ارتدت رداء الدين أو العلمانية.لقد أخذت فرنسا خطوة شجاعة في منع النقاب أما منعها للحجاب فما هو سوى نقاب بائس لعلمانية متوترة تفتقر لليبرالية، أي... ليست علمانية أساساً.