كسر لا يجبر
ماذا نتوقع، عندما تأكل الغربة القلوب والنفوس، عندما نصنع «غاتو» نحشر فيه دمنا ولحمنا، نعزلهم صغاراً وكباراً، وبينما نحن نرتاد المولات ونستمتع بالسينمات ونتنقل بين المطاعم، يجاهدون هم للحصول على ورقة تثبت مجيئهم للحياة وأخرى تثبت خروجهم منها، للحصول على كرسي في المدرسة للصغير، على دواء خافض لحرارة جسده، على عمل لهذا اليافع الذي يبدأ حياته... لا أكاد أتخيل أن تمرض صغيرتي فأقف بعجزي أتفرج عليها، أن تصل سن الدراسة فأخذلها، أن تصبح عروساً فأبكي حظها، أن تحلم بمستقبل فلا أملك حتى أن أشجع حلمها، أي شعور حارق بالقهر هذا؟ وماذا نتوقع من بشر يعيشون في هذا المعزل الحياتي والنفسي؟ ماذا نتوقع من بشر يذكره بلده بعجزه كل يوم، يعايره به، ويستخدمه ضده؟ لقد صنعنا بأيادينا حالة يجب ألا تكون في بلد مثل الكويت، ضغطنا وتجاهلنا وظلمنا بشكل يفوق التحمل الإنساني، ولكل فعل رد يزن مقداره.
ليتخيل كل منا للحظة وجه طفله ويتساءل: ماذا لو جاع وعجزت، هل أسرق؟ أثور؟ أخرج عن كل حدود المنطق؟ جوابي الشخصي هو نعم، سأسرق وأثور وأجافي المنطق أمام بكاء الصغيرة وفداء كف يدها المرطب بدموعها، إننا مخلوقات نرنو في أعماقنا إلى بدائية حاجاتنا الأساسية، فإن لم تتوافر، ننكسر سريعاً وبهشاشة، يتحطم فينا الشعور بالكرامة الإنسانية، وذاك كسر يصعب جبره. السؤال المستحق هنا هو: ما الذي يجعل من أي منا مواطناً كويتياً؟ بكل تأكيد لم نخرج نباتاً شيطانياً من هذه الأرض، بل قدمنا إليها من مناطق مختلفة، وأجدادنا هاجروا إلى هذه المناطق من أخرى غيرها... وهكذا، تجوب أصولنا بقاع الأرض بينما تبقى نظرتنا الضيقة في حدود المنطقة التي عرفناها في زمن حياتنا القصير، ننسى أننا مواطنو هذه الأرض لأننا نحيا عليها ونتعلم في مدارسها ونستثمر ما كبر وصغر من أموالنا في مشاريعها (حتى لو كانت شروة من الجمعية التعاونية) ونعمل في مؤسساتها ونمشي في شوارعها ونستنشق هواءها، وإخواننا البدون يشتركون معنا في كل هذه السمات، ومنهم من يفوق الكويتيين حباً وإخلاصاً وتضحية، فإن لم تكن سنواتك وسنوات آبائك وأجدادك، عملك ودراستك، إخلاصك وخدمتك لحد التضحية بحياتك كلها شفيعة لمواطنتك، فما شفاعتك وكيف تكون المواطنة؟ ويبقى السؤال الذي أصبح يسبب المرض على كثر تكراره: «أليس منهم من لا يستحق؟» بلى، منهم من لا يستحق ولكن، لمَ لم يجنس المستحقون ومنهم قراراتهم قيد التنفيذ؟ لمَ ترك غير المستحقين معلقين في الهواء لما يزيد على الأربعين سنة دون قرار حازم ينهي هذا الوضع الأكروباتي الخطير؟ خطأ مَنْ حرمان المستحق وتعليق غير المستحق؟ ومنْ يحدد المستحق ويحفظ حقه إذا كان التجنيس قرارا سياديا لا يملك صاحب الشأن أن يقاضي من أجله؟ وفي زمن الواسطات هذا كيف نؤمن أن القرار السيادي هذا لن يكون قرارا فساديا سواء بتجنيس من لا يستحق أو بمنع الجنسية عن مستحقها؟ دائرة وأغلقناها على أنفسنا وإخواننا البدون يدفعون الثمن.ولكن لحظة، ليسوا وحدهم من يدفع، نحن كذلك ندفع من استقرار المجتمع وأمانه، من توازنه وسمعته وصحة أفراده النفسية، وهنا لست أشير فقط إلى الصحة النفسية للبدون ولكن كذلك للكويتيين أنفسهم... قسمنا المجتمع وخلقنا حالة كره مرضية غير مبررة، ومن لا يدرك مغزى الكلام يسرع بنظره على تعليقات «تويتر» ليقرأ حجم كراهية «تسكت» القلب وتجلط دماءه... وضع نفسي مخلخل أن تعيش في «غاتو» يحرمك إنسانيتك، ووضع نفسي أكثر خلخلة أن تحقد على ساكن «الغاتو» هذا وتتمنى أذاه بما يعريك من أهم الغرائز الإنسانية الدافعة بحماية الآخرين والرحمة بهم انطلاقاً من مبدأ حماية النفس وحفظ النوع.كلنا ساهمنا وأنا شخصياً وقبل الجميع بحكم عملي المدني ومعلوماتي في سن شفرة السكين، في تركها معلقة في رقاب إخواننا وأخواتنا، فإذا ليس اليوم فإن غداً لناظره قريب، وبعد أن أعود من هذه السفرة، واليوم عندي شغل، وغدا عندي اجتماع، وبعده أتغدى مع الصديقات وتذهب الأيام وتأتي الأيام، وتخبو الحياة وتنطفئ الأحلام، تذوب الإنسانية وتتحلل في كأس الأسى المر، ينتهي الصبر ويتوقف العقل ولا تبقى إلا التهلكة يرمون أنفسهم فيها ونساعدهم نحن بدفعة من أيادي الإهمال والكسل واللامبالاة... أيا حزننا على أنفسنا، ليس أمننا ومستقبلنا هما من نغامر بهما فقط، إنها إنسانيتنا كذلك.