كتاب الموتى المقدّس

نشر في 11-11-2010
آخر تحديث 11-11-2010 | 00:01
 فوزي كريم لم يكُن البطلُ السومري جلجامش يحسبُ للموت، وللخلود، وللعالم الآخر برمته أي حساب. كان كيانُه الإنساني منصرفاً إلى الدنيا.

وبفعل هذا الانصراف الخالص من الشوائب، كما يعتقد، تعلّق بصديقه أنكيدو التعلّق القلبي المعروف في الملحمة الخالدة. ولكن الشائبةَ فاجأته مثل دمّلة متقيحة حين رأى صديقه يموت، ويتفسخ، شأن كلِّ "شيء" زائل.    

الحضارةُ السومريةُ الطينية تؤمن بالحياة الأرضية، وبالزوال، ومن ثم بالإنسان الذي خبرهما. وأهملت الحياة الأخرى، ومعايير عدالتها، ومصير الكائن فيها. والذي رأى معي المعرض الرائع، في المتحف البريطاني، عن مأثرة المصريين في "كتاب الموتى"، سيشعر بمدى الفارق بين الهاجسين العراقي والمصري القديمين، تجاه الحياة الدنيا، والحياة في الآخرة.

الحضارةُ المصرية لا تملكُ ارتباكَ المعنى في كيان جلجامش، ولا هاجسَه القلقَ تجاه زوال الحياة. وحضارتُها الصخرية أعانتها على صياغة رغبتها في الخلود في الإهرامات والأنصاب الهائلة الحجم، لا عن طريق "الفعل" الخالد كما انتهى إليه جلجامش، بل عن طريق الرضا المطمئن بأن الخلودَ مدىً في الحياة، لا يفصل بينهما إلا الموت. ولقد جُسّدت هذه الرؤية في الإهرامات والأنصاب الهائلة الحجم. هذا الفاصل الذي سرعان ما وفّر المصريُّ له تفاصيلَ رحلةٍ غايةً في التنظيم، والصبر، وهدوء النفس.

"كتاب الموتى" ليس إلّا بيانَ هذه الرحلة في مراحلَ عدة، تبدأ بمغادرة الانسان الدنيا الفانية، لا بموت الجسد ولا الروح. لأن المصري يؤمن أن صيانةَ الجسد عن طريق التحنيط بالغ الأهمية لبقاء الروح حيةً وسليمة. وهي بدونه سيُحكم عليها بالتحليق القلق، دون مستقر. حتى نهاية الرحلة التي يصبح فيها الكائنُ لقمةً سائغةً لوحشِ الجحيم إن كان سيئاً، أو ضيفاً على الفردوس، أو أرض القصب.

تحتَ قبّةِ القراءةِ القديمةِ لمكتبة المتحف البريطاني المهيبة، نُظمت رحلةُ الموتى المصريين، عبر غرف سوداء متتابعة، وإضاءة قريبة من العتمة، وموسيقى تذكرك بالسحر، والخفاء، والماوراء. نعوشٌ، وأحجار منحوتة، وأقنعة، وضمّادات من ورق البردي، هي مُفتتحٌ لبدء الرحلة. تماماً كرحلة "با" -أو روح الميت الذي يحضر على هيئة طائر- هذه الرحلة تتم على وقع نصوص "كتاب الموتى" المقدسة. تمائمٌ ابتهالية سحرية، كفيلة دحر كل المخاطر التي يتعرض لها الميت في رحلته، من قبل الشياطين، والقوى الشريرة.

عند نهاية الرحلة الوشيكة يدخل الميتُ بهوَ القضاء، الذي يتصدره (أوزيريس)، إلهُ العالم السفلي. والمدهشُ أن هذا الإله لا يحمل أثراً واحداً من آثار العالم السفلي باستثناء المهابة. فهو جميل، بلباس ناصع البياض، وبالغ الإناقة. وممّا يُضاعفُ رِقّته حضور زوجته الفاتنة (إيزيس). يتوسط قاعة القضاء ميزان لا يختلف عن موازيننا نحن البشر. وتحت إدارة (أنوبس) يوضع قلبُ الميت في كفةٍ، والمعيارُ ريش (مآة)، إلهة الإنصاف والعدل، في الكفةِ الأخرى.

وعلى مقربةٍ يقرفصُ الحيوان الذي يتكفل قضم القلب الردئ وابتلاعه. أما إذا وضح أن القلبَ خيّرٌ فلصاحبه حصتُه من الفردوس البسيط، الذي لا يعدو أن يكون صورةً أخرى لمصر النيل والقصب، ووفرةِ الخيرات، ولكن دون مرض أو موت.

"كتاب الموتى" يُعتبر بمنزلة "الكتاب المقدس" لقدامى المصريين، ولكنه ليس من وحي إله، ولا كتاب عقيدة. وهو كتابٌ مصور أيضاً. وكتابته ورسومه تمت بأبهى الطرق الفنية التي يتكفل بها فنانون مهرة، داخل البلاط الملكي، أو الكهنوتي، أو داخل البيوتات الكبيرة الغنية. ولعل إحدى أبرز هذه النسخ المعروضة واحدةٌ تعود إلى السيدة (آنهاي)، التي عاشت حوالي 1100 قبل الميلاد. والملفت للنظر فيها أن الشخوص عادة ما تُصور من جانب، في وقفتها أو مشيها. على خلاف الرسم عند اليونانيين.

اسم "كتاب الموتى"، ونظام الترقيم المنظم للنصوص، كان من ابتداع الباحث الألماني الأثري كارل ريتشارد، الذي نشر مختارات من الكتاب عام 1842. لكن أول المترجمين كان الفرنسي شامبليون، على أثر المباحث الجدية في الحملة النابليونية. الترجمة الإنكليزية الأولى كانت للأثري صمويل بيرتش 1867.

back to top