آخر ما يؤكد أن إسرائيل لاتزال تعيش عقدة "الغيتو"، رغم مرور كل هذه الأعوام الطويلة منذ إنشائها في عام 1948، هو ظاهرة الأسوار والجدران التي بدأت في الضفة الغربية ثم امتدت إلى حدودها مع مصر، والمؤكد أن هذه الظاهرة ستنتقل إلى الحدود مع لبنان وإلى الحدود مع سورية، فهناك خوف مزمن جاء به اليهود المهاجرون من أوطانهم السابقة، وهذا الخوف هو الذي دفع الإسرائيليين إلى بناء هذه الأسوار للاحتماء خلفها من إحساس بقي يلاحقهم رغم امتلاكهم حتى القنابل والصواريخ النووية.

Ad

في البدايات، وبعد إنشاء دولة إسرائيل مباشرة، اعتمد ديفيد بن غوريون نظرية التفوق الاستخباري لحماية دولته الناشئة، ثم ما لبث أن انتقل إلى القبضة الضاربة ببناء جيش يشكل قلعة حديدية متحركة تتدثر بسلاح جوي متفوق، وفرته للإسرائيليين فرنسا عندما كانت دولة استعمارية معنية بإشغال العرب المشارقة بالتحدي العسكري الإسرائيلي، حتى لا يفكروا في إنجاد أشقائهم في الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا، وإعانتهم على التحرر من الاستعمار الفرنسي، وهو أبشع استعمار عرفه التاريخ.

ثم بعد أن سقت نظرية التفوق الاستخباري ونظرية القبضة الحديدية الضاربة المدعومة بغطاء جوي مقتدر، لجأ الإسرائيليون إلى نظرية الأشرطة الجغرافية العازلة على غرار الشريط العازل في الجنوب اللبناني، والشريط العازل في غور الأردن الممتد من بحيرة طبريا حتى إيلات على البحر الأحمر، وبعد عام 1967 الشريط العازل على امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس.

لكن عندما أسقطت حرب عام 1973 ومعها الغارات الفدائية عبر الحدود مع لبنان، ومن داخل فلسطين نفسها، هذه النظرية لجأ الإسرائيليون إلى الجدران العازلة، أولاً في الضفة الغربية المحتلة، وثانياً الجدار "المكهرب" الذي جرى إعلان بنائه على طول الحدود مع مصر في سيناء، وهذا يعني العودة إلى نظرية "الغيتو"، إذ كان اليهود يحيطون أحياءهم في بعض الدول الأوروبية بجدران مرتفعة، للاحتماء خلفها من الاعتداءات التي كانوا يتعرضون لها من سكان هذه الدول، الذين هم بأكثريتهم من المسيحيين الناقمين على التصرفات اليهودية.

إنها عقدة "الغيتو"، لكن المؤكد أن نظرية الأسوار والجدران المرتفعة ستسقط كما سقطت النظريات السابقة، فالحروب في ظل كل هذه التطورات المتلاحقة وخاصة في المجالات العسكرية لم تعد كحروب أزمنة غابرة، إذ غدا بإمكان أي تنظيم فدائي صغير قهر أعلى جدار حتى وإن كان بارتفاع جدار برلين الشهير، وهذا يعني أنه على الإسرائيليين أن يدركوا أن الجدار الوحيد، الذي من الممكن أن يوفر لهم ولأجيالهم القادمة الحماية، هو جدار السلام الذي لابد من التوصل إليه مع الفلسطينيين والعرب.