«لا إحم... ولا دستور»!
إن مشكلتنا الحقيقية لا تكمن في العيوب الدستورية ولا الممارسات السياسية السلبية والمسيئة للديمقراطية، وتبقى الطموحات المخلصة للدفع نحو التطوير والنضج الديمقراطي أمرا مشروعا ومحمودا، ولكن المصيبة لا تكمن هنا، بل في الامتداد الأزلي لأعداء الدستور نفسه رغم تغير الأسماء والمواقع. سؤال مهم يطرحه الكثيرون في السنوات الأخيرة، خصوصاً في ظل الفوضى السياسية واضطراب الأوضاع العامة والتأزيم المستمر بين المجلس والحكومة، مفاده: لو علم الرعيل السياسي الأول وفي مقدمتهم أعضاء المجلس التأسيسي بما ستؤول إليه الأحوال السياسية، فهل يكتبون دستور 1962؟
وقد نختلف في الرأي مع من يتبنى هذا التحليل وبقوة لانعدام الأسباب والنتائج بين مرحلة ما قبل الدستور وحتى بدء الحياة النيابية من جهة، والمرحلة الراهنة التي نعيشها حالياً من جهة أخرى، وبالتالي يصعب الربط العضوي بين هاتين المرحلتين الأمر الذي يتطلب بعداً آخر في التحليل والاستنتاج. وهناك حقيقة واحدة في كل الأحوال ظلت ثابتة وراسخة طوال نصف القرن الماضي، وهي أن دستور 1962 إنجاز تاريخي وثمرة طيبة آتت أكلها بعد عقود طويلة من التجربة السياسية، ومرت بمحطات مهمة لتفتح أبواب الديمقراطية، وتدخل الشعب الكويتي بأجمعه كشريك في السلطة على مسطرة واحدة من الحقوق والواجبات وتحت مظلة القانون. وبالتأكيد لا نشك في حكمة واضعي الدستور ونظرتهم المستقبلية ونواياهم الحسنة تجاه أجيال المستقبل، ولكن هذا لا يمنع من كون الدستور قد خضع إلى حد كبير لفلسفة المرحلة السابقة له والممتدة على أقل تقدير ما بين عامي 1921 و1962، وكذلك المعادلات السياسية الداخلية والخارجية التي هيّأت الأرضية المناسبة لإعداده وإصداره، ومن هذا المنطلق يكون الجواب عن السؤال الخاص بمدى معرفة واضعي الدستور بما ستؤول إليه الأحداث بعد 50 سنة بالإيجاب رغم الممارسات العجيبة والغريبة التي نشاهدها اليوم، والسبب ببساطة أن ظروف نهاية الخمسينيات وبداية الاستقلال كانت تتطلب في حد ذاتها تنظيم الحياة السياسية بغض النظر عن التبعات والظروف اللاحقة، بدليل أن المشرع الدستوري لم يكن بخيلاً قط، حيث ترك حق مراجعة الدستور وتعديله للأجيال القادمة في الوقت الذي يرونه مناسباً، وبشرط أن تكون التعديلات المستقبلية نحو مزيد من الحريات والصلاحيات الشعبية. وإذا عرضنا تاريخ دستور 1962 وما نراه من محاولات راهنة للتحرش فيه اليوم نجد أنه على الرغم من العمر الطويل لهذا الدستور فإنه لم يأخذ الفرصة الكافية لتطبيقه بالشكل السليم والكامل منذ اليوم الأول لصدوره، وبقي هذا الدستور المسكين عرضة للتعطيل والتجميد، وبعد فشل هذه المحاولات تحولت المؤامرة إلى هجوم مزدوج من نوع آخر، فبدأت بعض الأصوات تتعالى لتطالب علانية بإلغاء الدستور ورميه في البحر، وعلى الجبهة الأخرى بدأت بعض المطالبات لتفريع الدستور من محتواه وبشكل رسمي عبر تعديله الذي لم نسمع منه سوى الاقتراحات الخاصة بالحد من الصلاحيات والحريات الشعبية!إن مشكلتنا الحقيقية لا تكمن في العيوب الدستورية ولا الممارسات السياسية السلبية والمسيئة للديمقراطية، وتبقى الطموحات المخلصة للدفع نحو التطوير والنضج الديمقراطي أمرا مشروعا ومحمودا، ولكن المصيبة لا تكمن هنا، بل في الامتداد الأزلي لأعداء الدستور نفسه رغم تغير الأسماء والمواقع، ففي بداية الستينيات كان خصوم الدستور ممن باتت مواقع نفوذهم وهيمنتهم على القرار معرضة للزوال، واليوم هناك أيضاً من فقدوا مراكزهم وقوتهم السياسية ونفوذهم الواسع بسبب تبدل معادلات القوة والتركيبات السياسية والاجتماعية الجديدة، فلم يعد الدستور يشفع لهم في الاستمرار في تحقيق مصالحهم فأصبح عبئاً ثقيلاً عليهم ولا يطاق.والعامل المشترك بين أعداء الديمقراطية في عهد ما بعد النفط والثروة وأعدائها اليوم في عهد الاستثمارات وأملاك الدولة وميزانية التنمية في أنهم يفضلون شعار "لا إحم ولا دستور" للدخول إلى أي موقع للثراء دون حسيب أو رقيب!