رواية ميلان كونديرا
ولِد ميلان كونديرا (Milan Kundera) في الأول من أبريل عام 1929، لأبٍ وأم تشيكيين، وكان والده موسيقياً، لذا ولِع ميلان بالموسيقى، وعمل بعد الحرب العالمية الثانية عازفاً على آلة الجاز، كما أنه درس علم الموسيقى والسينما والأدب في جامعة تشارلز في مدينة براغ. ولأنه عمل في بداية حياته أستاذاً مساعداً ثم محاضراً لمادة الأدب، فقد انطبع سلوكه بالدرس والتدريس، على الرغم من سمعته التي طبقت الآفاق كروائي، خاصة بعد استقراره في فرنسا بدءا من عام 1975.
كونديرا الذي بدأ حياته الإبداعية كشاعر، لفت الأنظار عبر مجموعته القصصية الأولى (غراميات ضاحكة) الصادرة عام 1963، وما لبث أن أثبت موهبة روائية لافتة، وتوج اسمه روائياً عالمياً بصدور روايته الأجمل «خفة الكائن التي لا تحتمل» (The Unbearable Lightness of Being)، الرواية التي ترجمت إلى أكثر من أربعين لغة عالمية. ومع هذا ظل ميلان حاضراً على خارطة الأدب العالمي، محاضراً ومفكراً في الأدب عموماً، وفي جنس الرواية خصوصاً. في كتابه «فن الرواية» ترجمة د. بدر الدين عرودكي، يبدو كونديرا متحمساً ومنحازاً تماماً لجنس الرواية، حتى أنه يرى أن «الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الإنسان» وجارا عليه، وأن جنس الرواية هو من أنصفه، ورفع شيئاً من الظلم عنه، وجاهد في سبر عوالمه. لكنه يؤكد في أكثر من مكان في الكتاب تبنيه لمقولة «هيرمان بروخ»، التي ترى في الرواية فناً رفيعاً، يقدم معرفة بالوجود والعالم بطريقة لا يستطيع أي علم آخر أن يقدمها، «اكتشاف ما يمكن للرواية وحدها دون سواها أن تكتشفه، هو ذا ما يؤلف مبرر وجود الرواية. إن الرواية التي لا تكتشف جزءاً من الوجود لا يزال مجهولاً هي رواية لا أخلاقية. إن المعرفة هي أخلاقية الرواية الوحيدة» ص13. وبهذا المعنى، تصبح الرواية، والرواية وحدها، هي دليل وملجأ الإنسان، إنسان القرن الواحد والعشرين، حيث الفلسفة والعلم، يسعيان بشكل حثيث إلى تهميشه، واعتباره ترساً في آلة المجتمع، بينما تنهض الرواية مدافعة عن خصوصية وجوده. «الرواية هي تأمل في الوجود تتم رؤيته عبر شخصيات خيالية» ص87، لكنها شخصيات، وبالرغم من إدراك القارئ لخيالية وجودها، فإن لبعضها حضوراً، وأثراً في نفس المتلقي، أكثر من أثر أقرب الشخصيات الواقعية قرباً إليه.يستقصي كونديرا تاريخ قارة أوروبا عبر الرواية، مقتنعا بأن مسيرتها منذ القرن الثامن عشر، إنما كانت ترجمة لحال المجتمعات عامة، ووضع الفرد خاصة. ويقف عند إنجاز أهم الروائيين، وعلى رأسهم الأيرلندي جيمس جويس (1882-1941)، خاصة في قدرته على اصطياد اللحظة الإنسانية العابرة، وتسميرها على مشجب الوقت: «ثمة في الظاهر ما هو أكثر وضوحاً وواقعية وقابلية للمسّ من اللحظة الحاضرة، ومع ذلك فإنها تفلت منا كليّة. هنا يتركز حزن الحياة كله. خلال ثانية واحدة يسجل نظرنا وسمعنا وشمّنا، عن وعي أو بالرغم منا، كمية من الأحداث، وتمرّ عبر رأسنا مواكب من الأحاسيس والأفكار. كل هنيهة تمثل عالماً صغيراً يتم نسيانه إلى غير رجعة في الهنيهة التالية». ص31إن مأزق الإنسان يكمن في أنه يعيش اللحظة مرة واحدة، وربما قدمت الرواية عزاء له، في تخليدها للحظاته العابرة، وتسليطها لضوء كاشف على أدق تفاصيلها.