مع اقتراب أسعار الفائدة من الصفر، يكافح بنك الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية من أجل الإبقاء على أهميته، ولقد أطلقت هذه البنوك السهم الأخير في كنانتها والذي أسمته "التيسير الكمي"، ومن غير المرجح أن تكون هذه المحاولة أكثر جدوى في إنعاش الاقتصاد الأميركي من أي جهد آخر بذله بنك الاحتياطي الفيدرالي في الأعوام الأخيرة، والأسوأ من هذا أن التيسير الكمي من المرجح أن يكلف دافعي الضرائب الكثير، في حين يضعف فعالية بنك الاحتياطي الفيدرالي لسنوات قادمة.
كان رجل الاقتصاد المخضرم الراحل جون ماينارد كينز يزعم أن السياسة النقدية كانت غير فعّالة في أثناء أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين، والواقع أن البنوك المركزية أكثر فعالية في كبح أو تقييد الوفرة الطائشة في أثناء نشوء الفقاعات- حيث تعمل على تقييد المتاح من الائتمان أو رفع أسعار الفائدة بهدف كبح جماح الاقتصاد- من تعزيز الاستثمار في أوقات الركود، ولهذا السبب على وجه التحديد، تهدف السياسة النقدية إلى منع نشوء الفقاعات.بيد أن بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي ظل أسيراً لأكثر من عشرين عاماً لمصالح الأصوليين في السوق وفي وول ستريت، لم يفشل في فرض القيود فحسب، بل لقد لعب دور فريق التشجيع، ونظراً لضلوعه بدور مركزي في خلق الفوضى الحالية فإنه الآن يحاول استعادة بعض ماء وجهه.في عام 2001، بدا خفض أسعار الفائدة وكأنه ناجح في تلبية الغرض منه، ولكن ليس على النحو الذي كان منتظراً منه، فبدلاً من حفز الاستثمار في المصانع والمعدات، عملت أسعار الفائدة المنخفضة على تضخيم فقاعة العقارات، الأمر الذي أدى بدوره إلى تمكين الشعب الأميركي من الانغماس في الاستهلاك، الأمر الذي كان يعني نشوء الديون من دون أصول مقابلة، وتشجيع الاستثمار المفرط في العقارات، مما أسفر عن فائض في الطاقة قد يستغرق استهلاكه سنوات طويلة.وأفضل ما يمكن أن يُقال عن السياسة النقدية في السنوات القليلة الأخيرة هو أنها نجحت في منع العواقب الأكثر هولاً التي كانت ستأتي في أعقاب انهيار ليمان براذرز، ولكن لا أحد يستطيع أن يزعم أن خفض أسعار الفائدة القصيرة الأجل كان سبباً في حفز الاستثمار، والواقع أن القروض التجارية- خصوصا للشركات الصغيرة- في كل من الولايات المتحدة وأوروبا تظل حتى الآن عند مستويات أدنى كثيراً من مستوياتها قبل الأزمة. ولم يفعل بنك الاحتياطي الفيدرالي ولا البنك المركزي الأوروبي أي شيء لتغيير هذا الواقع.ومن الواضح أن البنوك المركزية لاتزال مغرمة بالنماذج المعيارية للسياسة النقدية، حيث لا يتعين على البنوك المركزية لكي تُبقي على الاقتصاد مستمراً إلا أن تخفض أسعار الفائدة. ولقد فشلت النماذج التقليدية في توقع الأزمة الحالية، ولكن الأفكار السيئة تموت ببطء، لذا ففي حين فشلت محاولات خفض أسعار الفائدة على سندات الخزانة القصيرة الأجل إلى ما يقرب من الصفر، فإن الأمل يكمن في أن يؤدي خفض أسعار الفائدة الأطول أجلاً إلى حفز الاقتصاد. والواقع أن احتمالات النجاح تكاد تقترب من الصفر.إن الشركات الضخمة عامرة بالنقود السائلة، ولن يُحدِث خفض أسعار الفائدة بنسبة طفيفة فارقاً ملموساً بالنسبة لها، ولم يُتَرجَم خفض أسعار الفائدة التي تدفعها الحكومة إلى أسعار فائدة منخفضة بنفس القدر بالنسبة للعديد من الشركات الصغيرة التي تناضل سعياً إلى الحصول على التمويل.والأمر الأكثر أهمية هنا يتلخص في توفير القروض، ولكن بعد أن أصبحت العديد من البنوك في الولايات المتحدة هشة، فمن المرجح أن يظل الإقراض مقيدا، فضلاً عن ذلك فإن أغلب القروض المقدمة للشركات الصغيرة لا تُمنَح لها إلا بضمانات، ولكن الشكل الأكثر شيوعاً من الضمانات، ألا وهو العقارات، أصبح بلا قيمة تقريبا.كانت الجهود التي بذلتها إدارة أوباما للتعامل مع سوق العقارات فاشلة تماما، ولعلها لم تنجح إلا في تأجيل المزيد من الانحدار. ولكن حتى المتفائلين لا يعتقدون أن أسعار العقارات سوف تسجل ارتفاعاً ملموساً في أي وقت قريب. والأمر باختصار أن التيسير الكمي- خفض أسعار الفائدة الطويلة الأجل من خلال شراء السندات وصكوك الرهن العقاري الطويلة الأجل- لن يفعل الكثير لتحفيز العمل التجاري بشكل مباشر.ولكنه رغم ذلك قد يكون مفيداً بطريقتين: الطريقة الأولى باعتباره جزءاً من الاستراتيجية الأميركية في خفض قيمة العملة لدعم قدرتها على التنافس. فعلى المستوى الرسمي لاتزال الولايات المتحدة تتحدث عن فضائل الدولار القوي، ولكن خفض أسعار الفائدة يعمل على إضعاف سعر الصرف، ولا أهمية للأمر هنا سواء كنا ننظر إلى هذا بوصفه تلاعباً بالعملة أو باعتباره نتاجاً ثانوياً عَرَضياً لأسعار فائدة أدنى. فالحقيقة هي أن الدولار الأضعف قيمة نتيجة لتدني أسعار الفائدة يمنح الولايات المتحدة ميزة تنافسية طفيفة في التجارة.في الوقت عينه، وفي حين يتطلع المستثمرون خارج الولايات المتحدة إلى زيادة العائدات، فإن تدفق الأموال بعيداً عن الدولار عمل على ارتفاع أسعار الفائدة في الأسواق الناشئة في مختلف أنحاء العالم. والأسواق الناشئة تدرك هذه الحقيقة- أعربت البرازيل عن قلقها الشديد- ليس فقط بشأن زيادة قيمة عملاتها، بل أيضاً بشأن تدفق الأموال إلى الداخل، والذي يهدد بتغذية قاعات الأصول أو إحداث التضخم.إن الاستجابة الطبيعية من جانب البنوك المركزية في الأسواق الناشئة في التعامل مع الفقاعات أو التضخم تتلخص في رفع أسعار الفائدة، وبالتالي زيادة قيمة عملاتها. وعلى هذا فإن السياسة الأميركية توجه ضربة مزدوجة فيما يتصل بخفض العملة بهدف دعم القدرة التنافسية ؛ إضعاف الدولار وإرغام المنافسين على تقوية عملاتهم (ولو أن بعض البلدان تتخذ تدابير مضادة فتقيم الحواجز أمام التدفقات القصيرة الأجل وتتدخل بشكل أكثر مباشرة في أسواق صرف العملات الأجنبية).والطريقة الثانية التي قد يخلف بها التيسير الكمي أثراً طفيفاً يتلخص في خفض أسعار الفائدة على قروض الرهن العقاري، وهو ما من شأنه أن يساعد في دعم أسعار العقارات. وهذا يعني أن التيسير الكمي قد يُسفِر عن بعض التأثير الطفيف على القوائم المالية.ولكن التكاليف الكبيرة المحتملة تعمل على إهدار مثل هذه الفوائد الضئيلة، فقد اشترى بنك الاحتياطي الفيدرالي ما تزيد قيمته على تريليون دولار من قروض الرهن العقاري، التي من المرجح أن تهبط قيمتها حين يسترد الاقتصاد عافيته، وهو على وجه التحديد السبب الذي يجعل الجميع في القطاع الخاص عازفين عن شرائها.وقد تتظاهر الحكومة بأنها لم تتكبد خسائر رأسمالية، ولكن لا ينبغي لأحد أن ينخدع بهذا، حتى لو احتفظ بنك الاحتياطي الفيدرالي بالسندات حتى تاريخ استحقاقها. والواقع أن محاولة ضمان عدم ظهور الخسائر قد تغري بنك الاحتياطي الفيدرالي بالاعتماد بشكل مفرط على أدوات غير مختبرة وغير مؤكدة ومكلفة في التعامل مع السياسة النقدية، مثل تقديم أسعار فائدة عالية على الاحتياطيات بهدف حث البنوك على عدم تقديم القروض.إنه لأمر طيب أن يحاول بنك الاحتياطي الفيدرالي التكفير عن أخطاء الأداء الفادحة في مرحلة ما قبل الأزمة، ومن المؤسف أنه من غير الواضح ما إذا كان بنك الاحتياطي الفيدرالي قد غير من أسلوب تفكيره والنماذج التي يعتمد عليها، والتي فشلت في الحفاظ على سلامة الاقتصاد من قبل، ومن المؤكد أن تفشل من جديد. لقد أثبتت الأخطاء السابقة التي ارتكبها بنك الاحتياطي الفيدرالي أنها كانت باهظة التكاليف. وكذا سوف تكون الأخطاء الجديدة، حتى لو بذل بنك الاحتياطي الفيدرالي قصارى جهده لإخفاء ثمن هذه الأخطاء.* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت وأحدث مؤلفاته كتاب "ثمن التفاوت: كيف يعرض المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا للخطر".«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
اختبار أهمية الاحتياطي الفيدرالي
08-10-2010