ترك أبو عبدالله الصغير آخر سلاطين العرب في الأندلس مذكرات كتبها بعد جلائه إلى المغرب، سماها الباحثون بالمخطوط القرمزي تحدث فيها عن الحقيقة التي تجاهلها التاريخ، وكيف أنه لم يكن أكثر من حاكم سيئ حظ قادته الأقدار ليصبح على عرش دولة استشرى فيها الفساد حتى بلغ نخاعها فغدت آيلة للزوال في كل الأحوال، وما كان مجيئه ليغير من الموضوع شيئاً. دون مقدمات سأقول إن التاريخ يكتبه الأقوياء والمنتصرون دوماً، أما الضعفاء والمنهزمون فلا بواكي لهم، فذاكرة التاريخ يصيبها الضعف عندما تصل إليهم، وإن هي نشطت، جللتهم بالعار.

Ad

تحضرني في هذا الصدد قصتان. الأولى، قصة أبي عبدالله الصغير آخر سلاطين بني الأحمر في الأندلس، ذلك الذي سقطت الأندلس في عهده فانتهت بذلك دولة الإسلام هناك إلى يومنا هذا. أظهره التاريخ لنا أنه خائن باع دينه ومملكته للأعداء، ولاتزال عبارة أمه الشهيرة ترن في أذن الزمن ويتكرر صداها مرات ومرات، حين قالت له عندما خرج من قصره فوقف على ربوة مشرفة لينظر خلفه متحسراً باكياً على ملكه الذي زال: «ابكِ بني، ابكِ كالنساء ملكاً لم تصنه كالرجال». استعذب التاريخ رش الملح في جراحات هذه القصة إلى درجة أن تلك البقعة التي وقف عندها أبوعبدالله صارت معلماً سياحياً في الأندلس يسمونه اليوم موقع «زفرة العربي»، أي الزفرة التي خرجت من صدره حرقة على زوال ملكه!

لكن أبا عبدالله الصغير ترك مذكرات كتبها بعد جلائه إلى المغرب، سماها الباحثون بالمخطوط القرمزي بعد اكتشافها في أحد المواقع الأثرية هناك لتميز لون أوراقها, وقد تحدثت المذكرات عن الحقيقة التي تجاهلها التاريخ وأبى أن يستمع إليها. جاءت السطور المليئة بالألم والحسرة لترينا كيف أن أبا عبدالله الصغير لم يكن أكثر من سيئ حظ قادته الأقدار ليصبح على عرش دولة استشرى فيها الفساد حتى بلغ نخاعها فغدت آيلة للزوال في كل الأحوال، وما كان مجيئه ليغير من الموضوع شيئاً. ولكن هل رحمه التاريخ لذلك؟ لا، لم يرحمه ولم يكن ليفعل، والناس دوماً لا يهمها أن تنبش في تلافيف وشقوق الزمن المغبرة بحثاً عن الحقائق، وسيبقى ذلك السلطان في عقول الناس خائناً جباناً سلم الأندلس للصليبيين، وستظل تتردد عبارة أمه أنه بكى كالنساء ملكاً لم يصنه كالرجال.

والقصة الثانية، فعن سفينة «تايتانيك»، وكلنا نعرفها، تلك السفينة الإنكليزية الشهيرة التي اصطدمت بجبل جليد عائم وغرقت في المحيط مع أكثر من ألف وخمسمئة شخص. هذه السفينة التي أبرزتها هوليوود أكثر من مرة، صارت رمزاً للكارثة البحرية الأكبر في تاريخ الانسانية، ولكنكم ستفاجأون حين أقول إن «تايتانيك» في الحقيقة ليست الكارثة البحرية المدنية الأكبر في تاريخ الإنسانية ولا من يحزنون، وأن كل الشهرة المحيطة بها ما كانت لتصير لولا ذلك الضخ الإعلامي الغربي المتواصل بلا هوادة.

في ليلة الثلاثين من يناير 1945 في الحرب العالمية الثانية كانت السفينة الألمانية «فيلهلم غوستلوف» تبحر في بحر البلطيق حاملة على ظهرها زهاء عشرة آلاف شخص معظمهم من المدنيين المشردين الهاربين من الجيش الروسي الأحمر الزاحف باتجاه بروسيا (أقاليم تابعة لإمبراطورية ألمانيا قديماً)، وفي تلك الليلة المتجمدة السوداء أطلقت إحدى الغواصات الروسية طوربيداتها نحوها لتغرقها ومعها أكثر من تسعة آلاف شخص ما بين شيخ وامرأة وطفل قضوا حرقاً وغرقاً في المياه المتجمدة.

هذه الكارثة التي هي الأكبر في تاريخ الملاحة البحرية تتجاوز كارثة «تايتانيك» بمراحل قطعاً، ولكن مع ذلك ما أنصفها التاريخ ولا الإعلام!

وإن أنتم تساءلتم بلماذا؟ سأجيبكم بالقول مجددا: لأن التاريخ يكتبه الأقوياء والمنتصرون، ولم يكن ممكنا أبداً الحديث عن ضحايا من الألمان في كتب التاريخ نفسها التي ألصقت، وربما لاتزال، بالألمان لعنة ما اقترفه النظام النازي يوماً ما!