عالم نساء
إبّان الحروب تتحول حيوات النساء إلى ما يشبه البحيرات الموحلة، وتأخذ قلوبهن شكل "مفرمة اللحم" لتمجّ خليطاً دبقاً من فتات المواجع والخيبات والهذيانات، ينثرنها بلا ندم أو خوف، حين لا يبقى ما يُخاف عليه أو منه!هكذا كانت "علوية صبح" تغطس في بحيرات الملح والوحل مع شخصيات روايتها "مريم الحكايا" وتتوحد بهن، حتى ما عادت تعرف وجهها من وجه "مريم" أو "ابتسام" أو "ياسمين" أو "أم طلال" أو غيرهن من نساء عالمها الروائي، فالجميع تسيح وجوههن وحبر أيامهن على أوراق الرواية غير المكتملة، والمفتوحة الاحتمالات على مصائر غامضة وغير مؤكدة، وجميعهن نسخ مكررة لما تشيعه الحروب من خراب ويأس ولا جدوى. على خلفية الحرب الأهلية اللبنانية والقصف الإسرائيلي على بيروت إبان الثمانينيات، تُنحت مشاهد رواية "مريم الحكايا" وتتشكل شخوصها. وقد اختارت القاصة عالم النساء لترسم مأساة الحرب من أقرب وجوهها وأصدق زواياها. ومن حكايا النساء وثرثرتهن يُعاد تشكيل عالم من التوجس والقلق والخواء واللاجدوى واللايقين، وكلما ازداد الواقع قتامة وخراباً وموتاً ارتفعت وتيرة الثرثرة لتغطي عورة ذلك العالم المتداعي! فالثرثرة التي باتت خبز الأيام وإدامه لنسوة يعشن على مشارف مدينة مخرَّبة مثقوبة القلب، كانت أيضاً دواءً ناجعاً لسدّ تلك الثقوب والفراغات الروحية: "حتى وهي تقمّع اللوبيا، تميل برأسها يميناً ويساراً وهي تحكي، ملتذة بكلامها، وكأنها تقمّع جراحها وحكاياتها. نسوة البناية يتجمعن في بيتها صباحاً، ويحكين مشاكلهن لبعضهن... تقول أم طلال: أبداً، بدي إحكي، ليش بدي خلّي الحكي متل الدبلة على قلبي وطق؟... وليش بدي غطي شي وخبّيه؟ والواحد شو عنده يخسره إذا حكي؟ على القليلة إذا حكي ما بيبجّ. الأسرار تحوم عالقلب وتموّت الواحد. يا ما ناس طبّت وفقعت وماتت وانقتلت من تخباية الأسرار بالقلب".
ولأنه عالم مجنون ومُفرَغ من المنطق والأمن النفسي، فلا غرو إن كان عالماً بلا قيم أيضاً. وحيث إن أجساد النساء لا قيمة لها إلا في عالم سعيد ومتعافٍ، فإن المفاهيم عن كرامة الجسد وعن الأبعاد الإنسانية والخلقية لمفاهيم الطهارة والعذرية والحب والعلاقات الحميمة تبدأ بالاهتزاز والزعزعة. فمريم تقدم جسدها لمصطفى بلا شعور ولا رغبة ولا هدف، اللهم إلا الشعور بالغثيان، وبأن "العلاقة بالأشياء كلها باتت آنية وبلا تفكير بالزمن، وبأن الخوف من الموت جعل الخوف من كل الأشياء الأخرى بلا قيمة وبلا معنى".و"ابتسام" أيضاً تفعل ذات الشيء على وقع أزيز الطائرات الإسرائيلية وهي تعبر سماء المدينة المظلمة، وعلى صوت العيارات النارية التي تُطلَق من الأحياء السكنية تجاهها. ويأتي الإجهاض تنويعاً آخر على فقدان الأحلام والذكريات الحميمة. وحين أجهضت "مريم"، لم يكن ذلك حدثاً شاذاً، بل صورة مكررة لمدينة تجهض في كل ساعة ما تحبل به من فتات أحلام وأشباح ذكريات ومرارات جمة. لم يكن أمام النسوة إذن إلا الحكايات يجتررنها ويجدلن خلالها أحبال الوقت، ومع الحكايات يرحلن نحو كآبات سادرة أو يأس مدقع."فابتسام تقدم نفسها إلى مذبح زواج هو صنو للموت وشبيهه، بعد أن غادرها الحب وشهوة الحياة. و"ياسمين" تدفن عنفوانها تحت حجاب بلون الرماد وحياة تفوح بالريبة والتوجس، بعد أن عجزت عن تغيير مَن حولها وما حولها من بشر وظروف. و"أم طلال" تتجرع حتى الثمالة خيبات زمانها بزوج عاجز وابن مدمن وابنة مختلة العقل. وكلهن لا يملكن غير الحكايات، تتداخل إحداها بالأخرى كعُقَد "الكوروشيه"، يشبعن بها غريزة البقاء وفطرة الحكي عن حياة مموهة بعذابات الماضي ومخاوف الآتي.وعلى الرغم من هذا السرد الموجع لتواريخ عذابات النساء واضطهادهن باسم الأعراف والتقاليد، والذي يجري على هامش عريض من الحرب وفواجعها، تظل روح الفكاهة والسخرية المبطنة تسري بلطف وعذوبة في بنية العمل الروائي كله. فالحوارات التي صيغت باللهجة اللبنانية، كانت من الصدق والطرافة بدرجة تقربها من الرسوم الكاريكاتورية. فلا يملك القارئ حينها إلا أن يبتسم ابتسامات عريضة أو يقهقه في سره، وهو يمر بتلك المشاهد من الكوميديا السوداء."مريم الحكايا" رواية جذابة بكل المقاييس، وكتاب مفتوح على قراءات متعددة، وعمل لا يُملّ.