عالم نساء
![د. نجمة إدريس](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1511191571908366400/1511191591000/1280x960.jpg)
ولأنه عالم مجنون ومُفرَغ من المنطق والأمن النفسي، فلا غرو إن كان عالماً بلا قيم أيضاً. وحيث إن أجساد النساء لا قيمة لها إلا في عالم سعيد ومتعافٍ، فإن المفاهيم عن كرامة الجسد وعن الأبعاد الإنسانية والخلقية لمفاهيم الطهارة والعذرية والحب والعلاقات الحميمة تبدأ بالاهتزاز والزعزعة. فمريم تقدم جسدها لمصطفى بلا شعور ولا رغبة ولا هدف، اللهم إلا الشعور بالغثيان، وبأن "العلاقة بالأشياء كلها باتت آنية وبلا تفكير بالزمن، وبأن الخوف من الموت جعل الخوف من كل الأشياء الأخرى بلا قيمة وبلا معنى".و"ابتسام" أيضاً تفعل ذات الشيء على وقع أزيز الطائرات الإسرائيلية وهي تعبر سماء المدينة المظلمة، وعلى صوت العيارات النارية التي تُطلَق من الأحياء السكنية تجاهها. ويأتي الإجهاض تنويعاً آخر على فقدان الأحلام والذكريات الحميمة. وحين أجهضت "مريم"، لم يكن ذلك حدثاً شاذاً، بل صورة مكررة لمدينة تجهض في كل ساعة ما تحبل به من فتات أحلام وأشباح ذكريات ومرارات جمة. لم يكن أمام النسوة إذن إلا الحكايات يجتررنها ويجدلن خلالها أحبال الوقت، ومع الحكايات يرحلن نحو كآبات سادرة أو يأس مدقع."فابتسام تقدم نفسها إلى مذبح زواج هو صنو للموت وشبيهه، بعد أن غادرها الحب وشهوة الحياة. و"ياسمين" تدفن عنفوانها تحت حجاب بلون الرماد وحياة تفوح بالريبة والتوجس، بعد أن عجزت عن تغيير مَن حولها وما حولها من بشر وظروف. و"أم طلال" تتجرع حتى الثمالة خيبات زمانها بزوج عاجز وابن مدمن وابنة مختلة العقل. وكلهن لا يملكن غير الحكايات، تتداخل إحداها بالأخرى كعُقَد "الكوروشيه"، يشبعن بها غريزة البقاء وفطرة الحكي عن حياة مموهة بعذابات الماضي ومخاوف الآتي.وعلى الرغم من هذا السرد الموجع لتواريخ عذابات النساء واضطهادهن باسم الأعراف والتقاليد، والذي يجري على هامش عريض من الحرب وفواجعها، تظل روح الفكاهة والسخرية المبطنة تسري بلطف وعذوبة في بنية العمل الروائي كله. فالحوارات التي صيغت باللهجة اللبنانية، كانت من الصدق والطرافة بدرجة تقربها من الرسوم الكاريكاتورية. فلا يملك القارئ حينها إلا أن يبتسم ابتسامات عريضة أو يقهقه في سره، وهو يمر بتلك المشاهد من الكوميديا السوداء."مريم الحكايا" رواية جذابة بكل المقاييس، وكتاب مفتوح على قراءات متعددة، وعمل لا يُملّ.