الغموض المكتنف- كما يدّعون- بشأن تعريف العلمانية كمصطلح، هو في الواقع محاولة منهجية لتشويه هذا المفهوم الكوني من قبل التيار الديني، وكي لا تخضع السلطة الممنوحة لرجال الدين الكهنوتيين لمبضع الجراحة النقدية للدور الحقيقي لرجل الدين الذي عقد تحالفاً وثيقاً بينه وبين سلطة المال المتمثل بدور السلطة السياسية التي لم تجد على مر العصور أبرع من التيار الديني في الدفاع والتستر والتبرير لشبهات وسرقات تقوم بها السلطة السياسية. وبهذا يتفوق التيار الديني بجدارة في الحصول على مغانم الدولة عبر المؤسسات المالية المنتشرة على طول وعرض البلاد.
بعيداً عن التعريف للمصطلح العلماني والذي "أصبح من السذاجة والطفولة الفكرية أن يسجن الإنسان عقله وفكره في إطار تعريف زالت قيمته الفكرية بعد أن أصبح ظاهرة عالمية متجسدة واقعاً مادياً فيما يعرف بـ(المجتمع المدني)"، كما يقول البغدادي في كتابه "تجديد الفكر الديني".هذا الانتشار الواسع لدور مؤسسات المجتمع المدني المختلفة في جميع الفروع الحياتية، أصبح البحث عن التعريف للعلمانية ضرباً من الجهل وسذاجة فكرية بعد أن ضجت المكتبات ودور النشر بمباحث فكرية حول الأسس الفلسفية والمنطقية للعلمانية، ودورها الفعال في المجتمعات الديمقراطية التي اتخذت من العلمانية منهجاً حياتياً وحلاً لمشكلات التطرف والتعددية بأنواعها الدينية والفكرية والعرقية في ظل قانون فصل السلطات والحاكمية للشعب والذي هو عنوان لدور العقل في تأصيل هذا الفكر على مناحي الحياة المختلفة. وبهذا وجد المسلمون الذين يرزحون تحت سياط السلطة في بلدانهم الإسلامية والعربية في الهروب إلى الجنة العلمانية الديمقراطية في أوروبا وأميركا خلاصاً واحتراماً لآدميتهم.ولذلك يحلل البغدادي في كتابه "التجديد" أسباب فزع التيارات الدينية من هذا المفهوم الكوني، هو خوفهم من بقاء رجل الدين ضمن إطاره الطبيعي بين الناس،أي ذئباً بشرياً بلا أنياب السلطة. فيقول المرحوم البغدادي: "لقد استاء رجل الدين من العلمانية لأنها جعلت من المرجعية الدينية متساوية في قوتها مع المرجعيات الأخرى مثل العرف والتقاليد والمنطق، بعد أن كان الدين مرجعية متفوقة، وساءه تراجع مكانته بسبب تفوق العلمانية"، وقد رأى هؤلاء اللاهوتيون تراجع دور رجل الدين في أوروبا بعد الدمار الذي ألحقوه بالبلاد والعباد، وتقنين دورهم في المجتمع كمؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني، وبهذا فقد رجل الدين المحتكر لفهم النصوص الدينية دوره الفعال في إحكام قبضته على الناس إلى ما يشبه بخيال "مآته".ويتساءل البغدادي حول قبول المسلمين للمفاهيم العلمانية عملياً لا فكراً؟! لقد أصبحت هذه المفاهيم جزءاً من المتطلبات الأساسية في المجتمعات الحديثة التي أخذ المسلمون يجدون فيها الحياة السعيدة، في ظل دولة القانون وفصل السلطات وحقوق الإنسان، بعد أن كانت جميع السلطات تحت قبضة رجل الدين فهو يبدأ بالإفتاء بدءاً من الحيض وانتهاءً إلى الاستنساخ والتطور ونشأة الكون. وبهذا يصبح رجل الدين يفهم في كل صغيرة وكبيرة في الحياة المعقدة ويصبح "الفقيه الموسوعي"، كما يحب أن يسميه البغدادي.إن تطور المدارس الفكرية الحديثة والمعاصرة ومدى تأثيرها في العقل العربي في عصر التكنولوجيا الحديثة والاتصالات الكونية، أثرت بشكل مباشر في تشكيل عقل الإنسان الحديث وتفكيره النقدي في تحدٍّ واضح لسلطة رجل الدين، وقيام تلك المدارس الفكرية في مجابهة التكتلات الدينية المتطرفة عبر قراءة جديدة للنص الديني، ومدى تفوق رجالات الإصلاح الديني في إنعاش روح البحث والتصدي لتلك السلطة الكهنوتية وفك الحصار حول فهم الدين أو بتاريخية النص الديني أي بفهم النص بآليات عقلية جديدة.إن العلمانية كمفهوم كوني عالمي تتيح للإنسان حرية البحث والتفكير والنقد، وبهذا المفهوم أصبحت العلمانية ضرورة حياتية لتحرر الإنسان من نير الفكر الأحادي المتطرف والفهم الضيق والمحدود للحياة، إلى رحابة العقل وسعته في البحث والتقصي حول أسرار الطبيعة والكون. وحول حرية الإنسان في الاعتقاد والتفكير خارج الصندوق المغلق والمعلب للفكر الديني. ويقول البغدادي: "ولولا مفهوم الدولة القانونية التي أسسها الغرب وفرضها على العالم الثالث لنال مؤيدو المجتمع المدني- العلمانيون- الأذى الكثير".وقد كان المرحوم يستشعر عجز رجل الدين عن اللحاق بركب التطور المتنامي في جميع الحقول الحياتية، ويحاول بشراسة وبضراوة متناهيتين حصر رجل الدين في موقعه الطبيعي من الحياة، لعجزه عن إيجاد البديل لرفاهية الإنسان وسعادته، ولأنه أقحم شعوب العالم الإسلامي في محيط متلاطم من التطرف ومحاربة المفكرين والعلماء بصور مختلفة من الملاحقة والقتل وتشويه صورتهم أمام الآخرين، لتبدأ دوامة القتل والإرهاب في التنامي في العالم بسبب التخلف الفكري ونمطية التفكير في مواجهة المد العلماني الكوني.
مقالات
البغدادي والعلمانية الكونية
22-08-2010