نهاية الدبلوماسية أو اللعب «عالمكشوف»
قد نتفق جميعا على أن ما قامت به جماعة موقع "ويكيليكس" في نشرها لهذا الكم الهائل من الوثائق السرية حول عمل الدبلوماسية الأميركية في العالم إنما يشكل سابقة خطيرة، وغير متعارف عليها في تاريخ نشر الأسرار، كشفت عن عورة الدبلوماسي الأميركي والسياسي الأميركي ومن يتعامل معهما من تابعين أو عملاء أو حلفاء، وهم في حالة ارتكاب الجرم المشهود.فهي المرة الأولى التي يتم نشر مثل هذه الأسرار، وآثار الجرم لاتزال قائمة، ولم يتم محوها بعد كما كانت قد جرت عليه العادة بنشر مثل هذه الأسرار بعد عشرين أو 25 أو ثلاثين أو ستين سنة.
لكننا قطعا سنختلف حول الجهة الحقيقية التي تقف وراء تمكين جماعة موقع "ويكيليكس" من الوصول إلى هذا الكم الهائل من الوثائق السرية، وكذلك حول حقيقة الأسباب التي دفعت بتلك الجهة أو هذه الجماعة إلى القيام بنشر هذا الكم الهائل من أسرار وخفايا الدبلوماسية الأميركية مرة واحدة لتصل إلى أكبر عدد ممكن من سكان العالم، وهكذا مجانا دون أن تبذل الجهات الاستخبارية الأميركية أي جهد يذكر لمنع مثل هذا العمل المثير للدهشة وغير المتعارف والفاضح لأسرار أكبر دولة عظمى ماديا كما يفترض.ثمة من قال إنه تسريب من داخل الإدارة سببه صراعات أميركية داخلية بين الجمهوريين والديمقراطيين، وثمة من نسب المهمة إلى جماعة أميركية استشاطت غضبا من سياسة قادة بلدها تجاه العالم وأرادت الانتقام من كل ما يمت إلى تلك السياسة من خلال هذا العمل الصادم، فيما ذهب آخرون إلى نسب هذا العمل إلى جماعة الموقع أنفسهم بهدف فضح لا أخلاقية نظام النيوليبرالية الأميركي، لكنني أريد أن أختلف مع أصحاب الفرضيات الثلاث الآنفة الذكر طارحا بعض الأسئلة لأصل إلى فرضية مختلفة أرجو التأمل فيها... أما الأسئلة فهي:أولا: لماذا لم تهتز للإدارة الأميركية شعرة كما يقول المثل، ولم تقدم على هدم الموقع أو إيقاف مسلسل نشره بالقوة؟! ولماذا تحركت السويد ضد صاحب الموقع وعلى خلفية جريمة أخلاقية– اغتصاب جنسي عنفي– لا علاقة لها بالفعلة الأصلية محل النزاع مما حول الرجل إلى بطل عالمي؟! ولماذا لم يتقدم أي مسؤول أميركي أو أي من حلفاء أميركا الأقوياء بمن فيهم أستراليا بتقديم شكوى قضائية تتهم صاحب الموقع بالاعتداء على الأمن القومي الأميركي وتعريضه للخطر؟ ولماذا لم يتقدم أي من الزعامات والقيادات التي يفترض أن أسرار تعاونها الصريح مع أميركا سواء ضد بعضها بعضا أو ضد شعوبها أو ضد جيرانها قد أفشيت حسب الوثائق المنشورة، بشكاوى قانونية ضد صاحب الموقع؟ وماذا أفشت لهم الإدارة الأميركية في اتصالاتها الهاتفية حتى همدوا جميعا؟!وإن رأيي المتواضع في قصة "ويكيليكس" باختصار هو أنها الخطة الأميركية-الصهيونية الجديدة للعب على المكشوف كما يقال عندنا ونهاية عصر الدبلوماسية المقنع وذلك للأهداف التالية: أولا: إزالة حاجز الحياء الظاهري لدى الحلفاء أو التابعين أو المتعاونين وإشاعة نظرية سقوط قبح التعامل مع أميركا والترويج لنظرية الخيانة وجهة نظر.ثانيا: إشاعة الشك والريبة وانعدام الثقة بين الدول والجماعات والأفراد حتى بين أولئك المتعاونين مع أميركا.ثالثا: الاحتفاظ بجبهة حلفاء أميركا وأصدقائها مقفلة وغير قابلة للاختراق على أعداء أو خصوم أميركا، لتسهيل إدارة معركة الهروب المنظم من الحالة الإمبراطورية المنتشرة والمتناثرة.رابعا: ولما كان نحو تسعين في المئة أو أكثر مما نشر على موقع "ويكيليكس" معروف أصلا لدى الرأي العام المعادي لأميركا، كان لابد أن يمنح الفضل للرجل الأبيض مرة اخرى تأكيدا لنظرية التفوق العرقي التي قامت عليها دولة الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني المدعوم من معسكر الغرب الإمبريالي.إنها باختصار محاولة إشاعة مقولة نهاية الدبلوماسية والعمل السري مع العملاء والتابعين، فضلا عن الحلفاء، وذلك على قاعدة نهاية التاريخ الأميركية لفوكوياما باعتبار أن النهاية دائما ينبغي أن تكون مع جماعة "الواسب"، أي الرجل الأبيض الأنجلو ساكسوني النقي باعتباره شعب الله المختار.نعم هناك وثائق مهمة ودامغة نشرها موقع "ويكليكس" تدين أميركا وجماعتها لاسيما في منطقتنا وبلادنا العربية والإسلامية، لكن ذلك كان معروفا لدى المقاومين أولا، وإذا كان ثمة من فضل ثانيا لجوء أحدهم إلى هذا الأسلوب في كشف الأسرار فهو للمقاومين الذين تمكنوا من تعرية العملاء والتابعين وتهشيم صورة المستكبرين ورجالهم وقواعدهم المعلنة ما اضطر العدو لكشف ما تبقى من وجوه مستترة لعله يخفف من شدة الصدمة على تجار الصداقة مع أميركا والمروجين لمقولة أن خيانة الوطن والدين والهوية مجرد وجهة نظر!!* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني