البحر الابيض المتوسط يولد من جديد

نشر في 20-05-2011
آخر تحديث 20-05-2011 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن منطقة البحر الأبيض المتوسط تمر بتحول سياسي هائل، فقد بدأت الاحتجاجات العارمة على شواطئه الجنوبية الآن عملية إقامة الديمقراطية في هذه المنطقة، وبشكل أقل وضوحا، ربما تشهد منطقة البحر الأبيض المتوسط الآن نهضة أخرى لا تقل أهمية من منظور الاقتصاد الجغرافي.

إن التغيرات الطارئة على توازن القوى العالمي، وتحول هذا التوازن من الغرب إلى الشرق، ومن الأطلنطي إلى الباسيفيكي، من شأنها أن تثير التخوفات في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. والواقع أن خسارتهما للقوة الجغرافية السياسية والاقتصادية واضح وجلي، وعلى الرغم من أن السلوك الجغرافي السياسي المستقبلي للقوى الصاعدة الجديدة- البرازيل والصين والهند- يظل غير مؤكد، فإن هذا التحول قد يقدم فرصة بالغة الأهمية لمنطقة البحر الأبيض المتوسط.

فمع تركيز العالم على الغرب، هيمن منطقة الأطلسي على القرون الثلاثة المنصرمة، ولكن في عالم يركز على الشرق، فإن الروابط الرئيسة تتلخص في المحيطين الباسيفيكي (الهادئ) والهندي، ثم البحر الأبيض المتوسط نظراً للعلاقات الوثيقة اليوم بين آسيا وأوروبا.

والواقع أن إجمالي حركة الحاويات بين الشرق الأقصى وأوروبا الآن بلغ 18 مليون حاوية نمطية (وحدة تعادل عشرين قدما) سنويا، مقارنة بنحو 20 مليون حاوية نمطية من حركة المرور عبر الباسيفيكي، ونحو 4.4 ملايين حاوية نمطية من التدفقات عبر المحيط الأطلسي بين أوروبا وأميركا، وتستخدم حركة الحاويات بين الشرق الأقصى وأوروبا طريق البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس، وهو مسار أسرع كثيراً من المرور عبر قناة بنما، أو الدوران حول إفريقيا، أو حتى سلوك الطريق الخالية من الجليد عبر القطب الشمالي (الافتراضية حتى وقتنا هذا).

وعلى الرغم من تفوق طريق البحر الأبيض المتوسط فيما يتصل بمرور الحاويات بين أوروبا والشرق الأقصى، فإن 72% من البضائع التي تدخل الاتحاد الأوروبي تدخله عبر موانئ شمال أوروبا (على سبيل المثال، لوهافر، وإنتويرب، وروتردام، وبريمن، وهامبورغ)، في حين يدخل 28% فقط من البضائع عبر موانئ جنوب أوروبا مثل برشلونة، ومرسيليا، وفالنسيا، وجنوى، وأكثر من نصف الحاويات المتجهة إلى ميلانو من الشرق الأقصى يتم تفريغها في موانئ شمال أوروبا.

أو نستطيع أن نقول بعبارة أخرى إن أغلب السفن القادمة من الشرق الأقصى تدخل البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس وتبحر في طريق مستقيمة مروراً بجنوى ومرسيليا وبرشلونة وفالنسيا، الأمر الذي يضيف ثلاثة أيام إلى الرحلة للوصول إلى روتردام أو هامبورغ، وبالتالي فإن التفريغ في موانئ على الأطلسي بدلاً من الموانئ الجنوبية لأوروبا يترتب عليه تكاليف مالية وبيئية إضافية كبيرة، فضلاً عن تآكل القدرة التنافسية لأوروبا.

وطبقاً لدراسة عن ميناء برشلونة فإن التوزيع الأمثل لتدفق الحاويات من الناحيتين الاقتصادية والبيئية لابد أن يكون كالتالي: 37% لموانئ شمال أوروبا، و63% لموانئ جنوب أوروبا، نظراً للمقصد النهائي وبلد المنشأ للسلع المستوردة والمصدرة، وبالاستناد جزئياً إلى منهجية الوكالة الأوروبية للبيئة، فإن الدراسة تخلص إلى أن إعادة توجيه الحركة بين الموانئ إلى موانئ جنوب أوروبا من شأنه أن يخفض من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 50% تقريبا.

لا شك أن فكرة إعادة التوازن على هذا النحو غير واردة اليوم، لأسباب سياسية واقتصادية، والواقع أن الاختلال الحالي في توازن حركة الحاويات يعكس الدينامية الاقتصادية لشمال أوروبا، وكفاءة الموانئ، والطرق الممتازة والبنية الأساسية للسكك الحديدية التي تربط هذه الموانئ بكل أوروبا تقريبا، والفرص الاقتصادية الضخمة التي تتولد بفضل حجم السلع والبضائع التي تمر عبرها، ولكن إذا ما علمنا أنه من المتوقع أن تزيد حركة الحاويات بنسبة 164% قبل عام 2020، فسوف يتبين لنا أن موانئ جنوب أوروبا لابد أن تكون قادرة على زيادة حصتها في التدفقات بين أوروبا والشرق الأقصى بنسبة 40% إلى 50%.

ولتحقيق هدف إعادة التوازن على هذا النحو فإن موانئ جنوب أوروبا تحتاج إلى تحسين دعم البنية الأساسية، وتحديدا وصلات السكك الحديدية التي تربطها بشبكة السكك الحديدية الرئيسة في أوروبا. والواقع أن ميثاق النقل عبر أوروبا، والتي يعكف الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي على تنقيحها، تشكل ضرورة أساسية في هذا السياق، وذلك لأنها تشكل الخطة الرئيسة التي سوف تقود عملية تنمية البنية الأساسية في أوروبا.

وعلى الرغم من أن هذه البنية الأساسية تمول في الأساس من قِبَل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشكل منفرد وباستخدام أموال خاصة بها، فإن ميثاق النقل عبر أوروبا ملزم ويؤكد المشاريع ذات الأولوية لكل بلد عضو، وعلى هذا فمن الأهمية بمكان أن يعكس هذا الميثاق أهمية الارتباط بين السكك الحديدية وموانئ جنوب أوروبا.

ولضمان تحقيق هذه الغاية، يتعين على صناع القرار السياسي أن يعطوا الأولوية لمعيار الكفاءة وأن يضعوا في اعتبارهم التكاليف البيئية المترتبة على النقل البري أو البحري، وإذا كان لأوروبا وموانئها أن تظل قادرة على المنافسة وتحقيق الهدف الاستراتيجي «أوروبا 2020»- أوروبا التي تستخدم مواردها بكفاءة- فإن البنية الأساسية للنقل باستخدام السكك الحديدية في منطقة البحر الأبيض المتوسط تشكل أهمية بالغة.

ومن الواضح أن الأمر يستلزم توافر شرط جغرافي سياسي آخر من أجل تحقيق هدف إعادة التوازن: أن تظل قناة السويس آمنة ويمكن الاعتماد عليها كطريق للشحن البحري، وإن أي تهديد للعمل الطبيعي للقناة من شأنه أن يحول طريق الشرق الأقصى؛ أوروبا إلى الطرف الجنوبي لإفريقيا، وهذا يعني تهميش دور البحر الأبيض المتوسط (وارتفاع التكاليف إلى عنان السماء).

لقد لعب البحر الأبيض المتوسط دوراً حاسماً في الحضارات المصرية وبلاد ما بين النهرين الأولى، وكان بحراً يمخر عبابه الفينيقيون والإغريق والرومان، وكان مركزاً للعالم بالنسبة إلى العرب والبربر أولا، ثم العثمانيين والإسبان في وقت لاحق، واليوم بعد أن أفل نجمه نتيجة للتطورات التي فتحت الأميركتين والشرق على التجارة الأوروبية، فإن البحر الأبيض المتوسط يحظى اليوم بفرصة غير مسبوقة لاستعادة هيبته المفقودة.

* خافيير سولانا الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي سابقا، والأمين العام الأسبق لمنظمة حلف شمال الأطلنطي، ويشغل حالياً منصب رئيس مركز إيساد للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية (ESADEgeo)، وإنخيل ساز منسق مركز إيساد للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».

back to top