ثورة البوعزيزي
لم يكن الشاب التونسي محمد البوعزيزي يعلم حين أحرق نفسه أن خطوته هذه ستؤدي إلى ثورة شعبية سياسية تُسقط الرئيس من أعلى هرم السلطة.
هو كما العديد من الشباب يبحث عن فرصة عمل مناسبة بعد أن قضى سنوات من عمره على مقاعد الدرس، حصل إثرها على الشهادة الجامعية، ولمّا لم تتح له فرصة العمل هذه، بدأ ببيع الخضار على عربة متجوّلة، حتى هذه لم ترق للسلطة فصادرت إحدى الشرطيات منه العربة، ومعها رأسماله اليسير من الخضار.قد يقول قائل إن ذلك ليس مبرراً كافياً للانتحار، ولكن ثمة حكايات تروى في المواقع الإلكترونية التونسية، منها أن تلك الشرطية التي صادرت عربة هذا الشاب كانت قد تسببت له في أذى نفسي بالغ بأن أهانته أمام المارة وبصقت على وجهه، فتقدّم بشكوى لدى مديرية محافظة سيدي بوعزيز، فرُفضت شكواه، مما زاده ضغينة وشعوراً بالأسى، فأقدم على حرق نفسه أمام مبنى المحافظة.ستكون تونس لسنوات مقبلة حديث وسائل الإعلام والمنابر الدولية، فالخطوة هذه في رمزيتها تمثل مصدر قلق للعديد من السلطات الدكتاتورية العربية، والسؤال الآن الدور القادم على من؟ بالتأكيد ثمة عوامل ساعدت الشعب التونسي على تحقيق إنجازه التاريخي هذا، من بينها أنه شعب متعلّم بامتياز، فنسبة الأمية بحسب الإحصاءات الأخيرة لا تتجاوز 19 في المئة، وتبقى محصورة في كبار السن، أما الجيل الشاب وهو قائد الثورة الراهنة فيكاد تنعدم فيه نسبة الأمية، وما من شاب يكمل تعليمه حتى المراحل الجامعية يجهل أن من حق الدولة عليه أن توفّر له فرصة عمل، ورزقاً شريفاً له ولأفراد أسرته. ولا تخرج «ثورة البوعزيزي»، في تونس عن بقية الثورات التي عُرفت في المنطقة، وإن كانت الثورات العربية في جملتها تأتي ضد المستعمر، وانطلقت في أوائل القرن العشرين، لعل أقدمها الثورة المصرية ضد المستعمر الإنكليزي 1919، بعدها توالت الثورات في العديد من البلدان الأخرى.كنت أستحضر وأنا أتابع أحداث تونس- وهي من التسارع بمكان– قول أبي القاسم الشابي الشاعر التونسي العظيم: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة»... هذه الأبيات حين إذاعتها شهدت جدلاً دينياً فلسفياً يتعلّق بفعل الإرادة، ومشيئة من تأتي أولاً، مشيئة القدر أم الإنسان؟ الشابي لم يكن يلتفت إلى كل هذا، هي أبيات قدحت في ذهنه، تماشياً مع السياق التاريخي، ومحاربة المستعمر الفرنسي آنذاك. وكأنه يردد قول جدّه المتنبي: «أنام ملء جفوني عن شواردها». هؤلاء الثائرون في شوارع تونس هم أحفاد الشابي، الذي مات شاباً، وأبقى شعلة الثورة مشتعلة في صدور الآلاف من شباب تونس إلى يومنا هذا.هي ثورة شعبية اجتماعية بالدرجة، وإن جاء الشق السياسي متأخراً، بعد تسارع الأحداث وسقوط السلطة، ولعل المُفارق في الأمر أن الأحزاب السياسية التونسية لم يكن لها دور يُذكر في الأحداث الشعبية المتأخرة، بعد أن دُجن كثير من هذه الأحزاب، وفُرّغ من مضمونه، وأصبح موالياً للسلطة.جاء دور الشارع إذاً ليقول كلمته، وجاء دور الشباب ليطالبوا بحقوقهم، وحصتهم من الاقتصاد التونسي الذي تذهب أرباحه إلى جيوب نخبة قليلة متنفذة وحاكمة.