لا أريد بكلمة «الصعاليك» في العنوان أعلاه أي معنى سيئ، إنما مرادي منها تلك الإيحاءات الخاصة بالتمرد على النمط المألوف والخروج عن السائد المعروف، ولعل ما أغراني لاستخدامها هو المصطلح الشهير: الشعراء الصعاليك، والذي كان يطلق على مجموعة من الأشخاص، يقال وفقا لبعض المصادر إنهم امتهنوا غزو القبائل بقصد الأخذ من الأغنياء وإعطاء الفقراء، وإنهم لم يعترفوا بالمعاهدات والاتفاقيات بين قبائلهم والقبائل الأخرى، مما أدى إلى طردهم ومطاردتهم، ليعيشوا منبوذين في الصحاري، حياة ثورية تحارب الفقر والاضطهاد، وتسعى للتحرر المتمرد.

Ad

لكن الصعاليك الذين أعنيهم اليوم، لم يمتهنوا غزو أي مكان أو السطو على أي أحد، ولله الحمد، اللهم إلا إغارتهم الدائمة على المكتبات ومعارض الكتب وباعة المخطوطات، بقصد الشراء طبعا.

قد يستغرب بعضكم، لو أني قلت إنه بين ظهرانينا، وفي عين مجتمعنا هذا، وهو ذاته المجتمع الذي نشكو فيه من قلة القراءة، وتدني مستوى الثقافة، وهذه حقيقة ولا شك، مجموعة خارقة من المثقفين. ولا أعني بهؤلاء أولئك المثقفين المعروفين، الذين نراهم بين فترة وفترة في وسائل الإعلام التي تغطي أنشطتهم وفعالياتهم، أو تنقل تصريحاتهم، وأحيانا أخبار صراعاتهم الثقافية والفكرية، إنما من أعنيهم مجموعة من القراء النهمين، والمفكرين النشطين، والمتسائلين بشغف، ممن يكرهون في ذات الوقت وسائل الإعلام، فيتحاشون كل مصدر للضوء، فلا تغريهم الكاميرات، ولا تثيرهم فكرة أن تزين صورة الواحد منهم صدر هذه الصحيفة أو تلك المجلة.

متعتهم القصوى أن يمكثوا لساعات طويلة، من الليل والنهار، غائصين في مكتباتهم بين كتبهم، وبالأخص النادرة منها، والتي كانوا قد شدوا الرحال إليها قريبا وبعيدا، حتى وقعوا عليها في تلك الخزانة القصية المغبّرة في تلك المكتبة العتيقة، أو على ذلك الرف الذي أحاطت به خيوط العنكبوت في ذلك المستودع الخافت الإضاءة، أو عند ذلك الشيخ العجوز، بائع الكتب القديمة، في مصر أو في بلاد الشام أو غيرها.

المثقفون الصعاليك، لا يأنسون لأحد إلا لأصحابهم، ممن هم على شاكلتهم غالبا، أو المقربين منهم، وذلك في جلسات لهم خاصة، يتناولون فيها أخبار الكتب وما صدر منها أخيرا، وما نشر وما لم ينشر، ويتبادلون فيها المعلومات حول كيفية الحصول على نسخة من هذا الكتاب أو ذاك، من تحت الطاولة في أغلب الأحيان، ويتناقشون خلال ساعاتها فيما كانوا قرؤوه، فيختلفون ويتفقون، ويتناولون كل ما يحلو لهم ويثيرهم من أخبار الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية من حولهم، برؤى خارقة غير مسبوقة، ونظرات تحليلية لا تأتي بها إلا أعتى العقول، ولكن من بعيد ودون انخراط أو حتى أدنى رغبة بالاقتراب منها.

هؤلاء الصعاليك لا يهتمون لأمر «الرقابة»، لأنها لا تعنيهم، فلا هي التي تعييهم ولا التي تمنعهم من الوصول إلى أي كتاب يهتمون لأمره، ولهذا فلا يكترثون بفكرة المشاركة في أي فعالية لرفضها، فذلك عندهم من قبيل الترف الساذج وإضاعة الوقت فيما لا ينفع.

وحين يصدف أن تسأل الواحد منهم عن كتاب ما، أي كتاب، سيرد عليك بهدوء غالبا، وهو يحتسي فنجانا من القهوة أو الشاي أو يدخن سيجارته بشراهة: تجده في المكتبة الفلانية والفلانية والفلانية، ولكن لا تأخذ طبعة الناشر الفلاني، بل عليك بالناشر الفلاني، لأن في طبعة الأول سقطا في الصفحة الفلانية، أو نقصا في السطر الفلاني!

المثقفون الصعاليك، أناس خارقون مدهشون، لا يكفون عن إثارة انبهاري واستمطار دهشتي، وذلك في كل مرة أقترب بها منهم. وكلما جالست واحدا منهم، أحسست بضآلة ما عندي من حصيلة ثقافية، وكم أنا بحاجة للقراءة أكثر.

لكنني، وهنا مربط العنزة، فحتى الساعة لاأزال حائرا، في الوصول إلى إدراك الفائدة المجتمعية الحقيقية لهؤلاء الصعاليك؟!