كان مهرجان المتنبي الذي شاركتُ فيه في زيوريخ محدوداً، الأمر الذي أضفى عليه سمة الهدوء وحسن التدبير، والاقتصاد في المكان، والحركة، والفاعلية. مناخ زيوريخ الثلجي عزز من ذلك. فحركتنا لم تتجاوز الفندق المتواضع، وقاعة الاحتفال، التي كنا نتناول وجباتنا من الطعام في بهو استراحتها. الطعام الذي كان يُنجز بيد شبان عراقيين غاية في الأريحية.

Ad

معرفتي، في نشرة ثقافية للمدينة، بمعرض واسع لأعمال من بيكاسو(1881-1973) وفّر بين يدي ثمرةً جاهزة للقضم، ولعلها أغنى ثمار الزيارة فائدةً، بالرغم من أن معرفتي بوجوه جديدة من الشعراء المشاركين عرباً وأجانب كانت لا تقل غنى.

هذا المعرض الواسع في متحف «كانستهاوس» ينطوي على صدى لمعرض مبكر أكثر سعة من هذا، أُقيم في المكان ذاته عام 1932، يوم كان بيكاسو نجماً، ولكن في أفق الحركة الفنية الطليعية الغربية، وقبل أن يُصبح نجماً عالمياً أسطورياً. في معرض 1932 الريادي كانت هناك أكثر من 200 لوحة بالغة الإثارة. حتى أن عالِم النفس «يونج» وجد فيها بياناً فنياً لحالة الشيزوفرينيا. ولكن نذير الحرب الثانية، ودعاوى النازية ضد «الفن المنحل»، الذي كان بيكاسو أحد أعلامه، سرعان ما جعل اللوحة التكعيبية في عداد المحرمات.

هذا المعرضُ يحتوي على حوالي 80 لوحة، لم أكن على دراية مباشرة بالكثير منها. اعتدنا الاطلاع على الكثير من لوحات بيكاسو عبر الكتب، ولكن للرؤية العينية المباشرة حكاية أخرى. المعرض يستعرض عينات من المرحلة الوردية، والمرحلة الزرقاء. وفي كليهما لم يكن بيكاسو هو بيكاسو الذي اعتدناه. اللوحة هنا صغيرة الحجم نسبياً، وذات هدف خارج الإطار. لوحات مرحلته التكعيبية، التي تغطي أكثر من ثلثي المعرض كبيرة الحجم، ومدهشة. يحتفظ الفنان بأهدافها داخل الإطار. داخل لعبة الفن وتقنيته. فالتكعيبية هي أول حركة فنية تجعل من إطار اللوحة حدودَها القصوى. في الداخل تتم التنويعات البصرية على الفكرة، أو الثيمة التي تشكل قيمة هامشية: مزهرية، زجاجة نبيذ، منحوتة، أو آلة موسيقية. ولعل بيكاسو هو أغزر فنان اتخذ من الآلة الموسيقية مادة لتنويعاته التكعيبية.

ولا غرابة في الاعتقاد بأن الموسيقى كانت مصدر الوحي الأول لنزعة التجريد الفني، ولعلها المصدر ذاته للحركة التكعيبية برمتها. فالفنان الفرنسي «براك» (1882-1963)، الذي اشترك مع بيكاسو في تأسيس هذه الحركة، كان مولعاً بتذكير المشاهد بأن الموسيقى هي مصدر وحي للوحته. باخ، وموتسارت، ومفاتيح البيانو، والغيتار عناصر تكاد لا تفارق مخيلته.

في مرحلة بيكاسو التكعيبية كانت الآلة الموسيقية دائمة الحضور في لوحته. ولعله أكثر الفنانين وفرة باللوحات التي أنجزت تنويعات غير محدودة على الآلة الموسيقية. كان يحلو له أن يؤكد أن الموسيقى لا يجب أن تُرى طمعاً بمعنى في لوحته التكعيبية. ولكن من المؤكد، عبر معظم أعماله قبل 1913، أن الموسيقى قد لعبت دوراً مهماً في مواضيع أعماله التكعيبية. ولكن السؤال حول ما إذا كان للموسيقى تأثير يتجاوز مجرد اختياره لرسم آلاتها؟

في تلك السنوات كان بيكاسو قد أقام في قرية «كرَيت» الفرنسية، المشبعة بروح الثقافة الإسبانية، بفعل قربها من حدود إسبانيا. ولم يقتصر التأثير في رسم الآلات الموسيقية في المرحلة التكعيبية بين 1911-1913 على تمثّل الآلة كموضوع، إنما تجاوزها إلى الانتفاع من التقنية الإيقاعية الراقصة في الموسيقى، لتصبح في لوحته عناصرَ ذات بناء رياضي. قد ينكر بيكاسو هذا التأثير، ولكن كثافة الأعمال التي تعتمد الآلة الموسيقية موضوعاً لها في مرحلة إقامته في تلك القرية، يؤكد عكس ذلك.

المذهل في لوحات بيكاسو هذا التنوع غير المحدود للأساليب: الإنشاء قد يكون تحليلياً، تركيبياً، سوريالياً، كلاسيكياً، أو خلطاً بارعاً بين كل هذه. المهم أن ترى بيكاسو راقصاً عبر حركة لا تهدأ في اللوحة. كنت أتابع إيقاعه الراقصَ عبر قرابة ساعتين من الزمان، وأنا أتأمل المقاربة الممكنة مع إيقاع آلة الغيتار الشعبية، أو مع إيقاع أي كونشيرتو يخطر على بالي ليوهان سيباستيان باخ.