اصلاح سوق الاسكان المفلس في اميركا

نشر في 10-09-2010
آخر تحديث 10-09-2010 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن البطالة المستمرة تُعَد من بين الإشارات اليقينية الدالة على اختلال اقتصاد السوق. ففي الولايات المتحدة اليوم يعجز واحد من كل ستة من العاملين الراغبين في الحصول على وظيفة بدوام كامل عن تحقيق مبتغاه. وهو اقتصاد يتسم بالعجز عن تلبية قدر عظيم من الاحتياجات، لكنه يظل رغم ذلك محتفظاً بموارد خاملة لا حد لها.

ويشكل سوق الإسكان في الولايات المتحدة شذوذاً آخر: فهناك مئات الآلاف من المشردين (أكثر من 1.5 مليون أميركي أمضى ليلة واحدة على الأقل في أحد الملاجئ في عام 2009)، في حين تظل مئات الآلاف من المساكن شاغرة.

بل إن معدلات حبس الرهن العقاري آخذة في الازدياد. ففي عام 2008 خسر مليونان من الأميركيين مساكنهم، وفي عام 2009 خسر 2.8 مليون أميركي مساكنهم، ومن المتوقع أن تكون الأرقام أعلى في عام 2010. وكان أداء أسواقنا المالية بائسا -فالأسواق «العقلانية» الجيدة الأداء لا تُقرِض أشخاصاً عاجزين عن السداد أو عازمين على عدم السداد- ورغم ذلك فقد كوفئ هؤلاء الذين يديرون هذه الأسواق وكأنهم عباقرة في عالم تدبير الموارد المالية.

ولكن ما الجديد في كل هذا؟ الجديد في الأمر هو اعتراف إدارة أوباما المتردد المتأخر بأن جهودها الرامية إلى تنشيط أسواق الإسكان والرهن العقاري من جديد كانت فاشلة إلى حد كبير. ومن الغريب في الأمر ذلك الإجماع الذي نشأ سواء في جناح اليمين أو اليسار على أن الحكومة لابد أن تستمر في دعم سوق الإسكان في المستقبل المنظور. والواقع أن هذا الموقف محير، بل وقد يكون خطيراً.

وهو موقف محير لأن مسألة إدارة سوق الإسكان الوطني لا تُذكَر أبداً في التحليل التقليدي لتحديد الأنشطة التي ينبغي لنا إدراجها ضمن المجال العام. والواقع أن التمكن من المعلومات المحددة المرتبطة بتقييم الجدارة الائتمانية ومراقبة أداء القروض يشكل على وجه التحديد الوظيفة التي يفترض في القطاع الخاص أن يبرع في أدائها.

غير أنه موقف مفهوم رغم ذلك: فقد دعم كل من الحزبين السياسيين الرئيسيين في الولايات المتحدة السياسات المشجعة على الإفراط في الاستثمار في قطاع الإسكان والمبالغة في الاستعانة بالروافع المالية (الإنفاق بالاستدانة)، في حين عملت إيديولوجية السوق الحرة على إثناء الجهات التنظيمية عن التدخل لمنع الإقراض المتهور. وإذا تراجعت الحكومة الآن فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من الهبوط في أسعار العقارات، وقد تتعرض البنوك لضغوط مالية أعظم، وتصبح التوقعات الاقتصادية في الأمد القريب أكثر قتامة.

ولكن هذا على وجه التحديد السبب الذي يجعل سوق الرهن العقاري الذي تديره الحكومة خطيراً. ذلك أن أسعار الفائدة المشوهة، والضمانات الرسمية، والإعانات الضريبية تشجع على استمرار الاستثمار في قطاع العقارات، في حين يحتاج الاقتصاد إلى الاستثمار، في التكنولوجيا والطاقة النظيفة على سبيل المثال.

فضلاً عن ذلك فإن مواصلة الاستثمار في قطاع العقارات تزيد من صعوبة الحد من إدمان الاقتصاد الاعتماد على قطاع العقارات، وإدمان سوق العقارات الدعم الحكومي. ولا شك أن دعم المزيد من الاستثمار في العقارات من شأنه أن يجعل قيمة القطاع أكثر اعتماداً على سياسات الحكومة، الأمر الذي يضمن اضطرار صناع القرار السياسي في المستقبل إلى مواجهة ضغوط سياسية أعظم من قِبَل جماعات المصالح مثل شركات بناء العقارات وحاملي السندات.

إن السياسات الأميركية الحالية مشوشة ومرتبكة على أقل تقدير. ولم يعد مجلس الاحتياطي الفدرالي (المركزي الأميركي) يمثل مقرض الملاذ الأخير، بل مقرض الملاذ الأول. والآن تتحمل الحكومة المجازفة الائتمانية في سوق الرهن العقاري، ويتحمل الاحتياطي الفدرالي المجازفات المرتبطة بالسوق. ولا ينبغي لأحد أن يندهش مما يحدث الآن: فقد اختفى سوق القطاع الخاص في الأساس.

ولقد أعلنت الحكومة أن هذه التدابير مؤقتة وأنها لن تنجح (إذا كان لها أن تنجح) إلا من خلال خفض أسعار الفائدة. ولكن هذا يعني ارتفاع أسعار الفائدة حين يبلغ التدخل منتهاه -وتكبد أي حامل للسندات المدعومة بالرهن العقاري خسائر رأسمالية- وهي الخسائر التي قد تكون جسيمة.

ولن يقبل أي طرف في القطاع الخاص على شراء مثل هذه الأصول، بل إن مجلس الاحتياطي الفدرالي ليس مضطراً إلى الاعتراف بالخسارة؛ وفي حين قد يتحدث أنصار السوق الحرة عن فضائل تسعير السوق «واكتشاف الأسعار»، فإن مجلس الاحتياطي الفدرالي من الممكن أن يتظاهر بأن شيئاً لم يحدث.

ومع تحمل الحكومة مخاطر الائتمان، فإن صكوك الرهن العقاري تصبح آمنة بقدر أمان السندات الحكومية من نفس فئة الاستحقاق. ومن ثم فإن تدخل الحكومة في سوق الإسكان يشكل حقاً تدخلاً في سوق السندات الحكومي؛ وبهذا يصبح «التحول» المعتزم عن شراء صكوك الرهن العقاري إلى شراء السندات الحكومية بلا تأثير يُذكر.

ويباشر مجلس الاحتياطي الفدرالي المهمة العصيبة المتمثلة في محاولة تحديد أسعار الفائدة القصيرة الأجل، بل وأسعار الفائدة الطويلة الأجل أيضاً.

وتتفاقم صعوبة إنعاش سوق الإسكان لسببين: الأول، أن البنوك التي تعودت على تقديم قروض الرهن العقاري التقليدية تمر بضائقة مالية. والثاني، أن نموذج تحويل القروض إلى أوراق مالية أصبح معطلاً إلى حد كبير ومن غير المرجح أن يُستبدَل في أي وقت قريب. ومن المؤسف أنه لا إدارة أوباما ولا مجلس الاحتياطي الفدرالي على استعداد لمواجهة هذه الحقائق.

ولم تنجح محاولة تحويل القروض إلى أوراق مالية -تجميع أعداد كبيرة من قروض الرهن العقاري بهدف بيعها لصناديق معاشات التقاعد والمستثمرين في أنحاء العالم المختلفة- إلا في ظل وجود وكالات التصنيف والتقييم التي اؤتمنت على ضمان تقديم قروض الرهن العقاري لأشخاص قادرين على السداد. واليوم، لا ينبغي لأحد أن يثق بوكالات التقييم، أو البنوك الاستثمارية التي قدمت منتجات معيبة (وصممتها في بعض الأحيان على نحو يضمن خسارة المال).

ونستطيع أن نقول باختصار إن السياسات الحكومية الرامية إلى دعم سوق الإسكان لم تفشل في إصلاح المشكلة فحسب، بل تسببت أيضاً في إطالة عملية خفض الديون وخلق الظروف التي قد تؤدي إلى وعكة على غرار ما حدث في اليابان. والواقع أن تجنب هذا «الوضع الطبيعي الجديد» الكئيب سيكون بالغ الصعوبة، ولكن هناك سياسات بديلة تتمتع بآفاق أفضل كثيراً في إعادة اقتصاد الولايات المتحدة والعالم إلى الازدهار والرواج.

لقد تعلمت الشركات والمؤسسات كيف تتلقى الأنباء السيئة بهدوء، وأن تخفض خسائرها وتستأنف أعمالها، ولكن الحكومات لم تتعلم كل ذلك. والواقع أن واحداً من كل أربعة من قروض الرهن العقاري في الولايات المتحدة يتجاوز دينه قيمة المسكن. واسترداد المساكن لا يؤدي إلا إلى زيادة أعداد المشردين والمساكن الشاغرة. والمطلوب الآن يتلخص في الخفض السريع لقيمة قروض الرهن العقاري. وسيكون لزاماً على البنوك أن تعترف بخسائرها، إذا لزم الأمر، وأن تعمل على إيجاد رؤوس الأموال الإضافية اللازمة لتلبية متطلبات الاحتياطي.

لا شك أنها مهمة مؤلمة بالنسبة إلى البنوك، ولكن هذه الآلام لا تقارن بالمعاناة التي فرضتها هذه البنوك على الناس في قطاعات الاقتصاد العالمي الأخرى المختلفة.

* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت وأحدث مؤلفاته كتاب "ثمن التفاوت: كيف يعرض المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا للخطر".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top