اعترفت صغيرتي أنها غاضبة على الدنيا واعترفت أنا أنني عاجزة عن التفسير، واتفقنا على أن نبحث عن زهرة في كل شجرة وكل وردة، في كل زجاجة عطر وخيط حرير، في كل لون في لوحة ونغمة في أنشودة، أن نحبها ونبقى نحبها، وأن نذوب في جلال فقدها بألا نسأل ولا نبرر ولا نفسر.
حان وقت وداعها، يانعة عبقة، اسم على مسمى... زهرة الصغيرة الرقيقة، تكافح مرضاً عضالاً ما عرف الرحمة بسني عمرها القليلة ولا الشفقة تجاه ابتسامتها الراضية، فاختطفها وترك مكان غرسها في قلوبنا شوكاً ومرارة، رفيقة ابنتي في المدرسة، عرفنا زهرة منذ سبع سنوات تقريباً، أستمع إلى قصص شجاعتها من ابنتي كل يوم، أشاهدها أحياناً تجر حقيبتها خروجاً من باب المدرسة، ولم يطبع ثقل الحقيبة سوى ابتسامة راضية على وجهها. أول معرفتها بابنتي كان من خلال برنامج للمساعدة الدراسية بين الطلبة، فتذهب ابنتي إلى صف زهرة، وتأتي زهرة إلى صف ابنتي لتتبادلا المعلومات وتتساعدا في الدراسة، وتعود ابنتي كل يوم ترى فيه زهرة في المدرسة محملة برؤى معبرة حول هذه الصغيرة التي أثقل المرض جسدها وبشكل غامض رائع خفف قلبها وروحها، وأنار ابتسامتها حتى أصبحت مصدر بهجة للصغيرات والصغار من حولها. زهرة رحلت كما ترحل كل الزهور، بسرعة وجمال وجلال... زهرة تركت عبقاً كما تفعل كل الزهور، زهرة تركت فراغاً كما تترك كل الزهور، وزهرة خلفت شوقاً وتوقاً وحناناً حارقاً... تماما كما تخلف الزهور، نامت زهرة، وغداً من فراشها الأخضر الوثير تنبت أشجار وزهور، لكنها أيقظت في قلب صغيرتي طعم مرارة غريب على سني عمرها القليلة. جلست قبالتي، خصلات شعرها مبللة مظللة عينيها المحملتين بالدموع. ساد صمت العجز بيني وبينها، فلا هي تعرف كيف تنعى ولا أنا أعرف كيف أواسي عند فقد الزهور. سال الألم مدراراً ففرشنا زهوراً من المحبة بيننا، أخذتها في حضني واعتصرتها إلى قلبي حتى سمعت طقطقة ضلوعها بين يدي، تشبثت إحدانا بالأخرى، نشتم رائحة الحزن والشوق في الصدر ونودع زهرة في كل خفقة قلب. «ليش يا ماما، ليش زهرة؟» كان أول الحديث «لأن الدنيا ليس فيها عدل، ومن ظلمها نتعلم أن نعدل، ومن قسوتها نتعلم أن نحنو، ومن أساها نتعلم أن نفرح». نظرت إلي صغيرتي بعتب وكأن ذكري للفرح فيه تصغير لحزنها، فبكيت وبكت، عجزنا أن نقول ما يناسب جلال اللحظة، اكتشفنا لحظتها أن كل كلمات المواساة ومحاولات فهم ما حدث ولم يحدث إنما تضغط جروح القلب فتلهبه بالأسى والغضب. اعترفت هي أنها غاضبة على الدنيا واعترفت أنا أنني عاجزة عن التفسير، واتفقنا على أن نبحث عن زهرة في كل شجرة وكل وردة، في كل زجاجة عطر وخيط حرير، في كل لون في لوحة ونغمة في أنشودة، أن نحبها ونبقى نحبها، وأن نذوب في جلال فقدها بألا نسأل ولا نبرر ولا نفسر. زهرة يا ابنتي، يا صديقة ابنتي، غيابك قهر لا نجد له دواء سوى في عطر ذكراك، فوداعاً. كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
زهرة
15-03-2011