صالة ممتدة، أرضها رخام باهت اللون، وضع فيها أربعة أو خمسة أو ستة أسرة من حديد غطيت بجلد بني داكن، بين كل سرير وآخر كانت هناك ستائر من البلاستيك. علق في زاوية سرير منها قفازات سوداء كبيرة متسعة الأطراف تتسع لأيدي لا عمل لأصحابها غير غسل الأجساد وعلى طاولة صغيرة ملاصقة للسرير، هناك لفائف من القطن الشاحب، لم يكن أبيض، كان باهتاً... لا لون له.

Ad

نظرت صوب اليمين، هناك "ثلاجة" ضخمة، رصت فيها "أشياء"... لا لم تكن أشياء، كانت جثث الموتى تم صف الأجساد بها كأنها كتب حزينة تقول كل كلمة بها: هذه النهاية... هذا هو العدم، أو "ربما" هو نهاية مشوار الحياة... حياة بلا معنى نأتي لها بلا معنى ونغيب عنها بلا معنى... بحثت عن جسد محمد، كان ممدداً في الصف الأسفل على رفوف النهاية، نهايته اليوم ونهايتنا غداً أو بعد غد... حتماً... هي النهاية التي لا نعرف متى تسدل ستائر مسرح الحياة بجمالها وقبحها بحلاوتها ومرارتها بتناقضاتها وعبثها... بالتأكيد ستنزل بظلامها على كل منا... ومأساتنا هي مأساة قلقنا بإدراكنا حتمية النهاية... تلك قاعدة لا ترضى أبداً بالاستثناء.

أنظر إلى ذلك الرف في ثلاجة النهاية، رأس محمد وجسده ملفوفان بخرقة بيضاء. جسده مقيد بها وقد أحكم إغلاقها بعقدة كبيرة عند قمة الرأس... ترتفع أصوات متضاربة... أين "بشته"... هل جئتم به... أم نغطيه "ببشت" من لدينا... يسارع بعضنا إلى حمل "الجسد" إلى تلك السيارة الطويلة ذات اللونين الأصفر والأبيض... ركبوا سيارة الوداع, لم أحشر نفسي معهم... كفى... فمعهم جسد نقشت عليه كلمات من "عرة وبرة" ثم "الله بالخير"، وحمل صاحبه هماً كبيراً بالإنسان... وساروا وسرنا خلفهم.

تمضي السيارات إلى المنزل الأخير، تسرع إلى القبر... نتسابق كي نصل إلى لحظة الوداع الأخيرة... نمر مسرعين تخطف نظري أجساد كومت فوقها أتربة النسيان... مررنا على قبور كثيرة... هذا قبر والدتي... وكانت أعز الناس إلى روحي... قبر والدي... قبور إخواني... قبور أصحابي... هذا فايز المطوع ملك الفرح أيام شبابنا الضائع. هذا أحمد الربعي السياسي والكاتب والوزير السابق... هذا قبر شقيقي عبدالعزيز وكان يملأ الدنيا بسخريته... وهذا قبر الفنان راشد الخضر وقد "شبت نار الفناء من ضلوعه حطبها"، وهذا قبر الحر أحمد البغدادي... وهذا قبر صامت ضم أخي المحامي حمد العيسى، وهو الذي لم يكن يعرف الصمت... قبور وقبور بلا نهاية... فالموتى الذين كنت أعرفهم... وأضحك وأبكي معهم... أضحوا أكثر من الأحياء... رحلوا إلى غير رجعة... وصرخت في وجداني كلمات ابن معرة النعمان الوجودي "صاح هذه قبورنا تملأ الرحب... فأين القبور من عهد عاد؟".

نقف... لا أعرف أين وقفت حينها... أشاهد حفاري القبر يعملون بهمة... يستعجلون في عملهم... هم أهل الدراية في ردم التراب على جسد محمد مساعد...

وقفت بالصف مع الأقرباء نتلقى التعازي ونردد بلا ملل كلمات الشكر والدعاء بالخير نقول لهم: جزاكم الله خيراً مرة... ومرة ثانية نقول لهم مشكورين على سعيكم... إلا أن سعي محمد في الحياة قد انتهى، فنحن ننفتح على الحياة بصدفة قدر ثم فجأة نعي لحظة الموت في لحظة قدر أخرى.

الجسد الميت لا يتكلم ولا ينطق بغير الذكرى... هي الذكريات تهيم بخيالنا في لحظات العمر القصير... تسبح سارحة كالغيوم في فضاء الماضي، وتهمس لنا دائماً، وشوشت لي الذكرى... عن طفولتي، ورسمت لي صورة محمد محتضناً آلة العود يتعلم العزف في شقة صغيرة بالقاهرة حين كان طالباً في كلية الحقوق بجامعة القاهرة في خمسينيات القرن الماضي... تتقافز مشاهد وصور كثيرة تتلاشى مع الماضي... شاهدت صورته ممسكاً بيد ابنة خالتي "حصة" يسير معها على شاطئ السالمية، بعد أن تمت خطوبتهما وكتب كتابهما في ديوان جده يوسف بن عيسى... كان يشبك يده بيد رفيقة عمره ويسيران بصمت... لعله أراد أن يبلغها كلمات حبه الكبير وهو الذي كان بليغاً باللغة المرسومة بالكلمة ويمقت ثرثرة المنطوق... ومضت السنون الطويلة تجري مسرعة، وكتبت مقالاً بعنوان "يوماً من السأم" عام 88 في "الوطن" بمعنى اللاجدوى من الحياة حين تغيب حرية الإنسان في التعبير بالكلمة، واتصل بي الراحل أحمد الربعي ليطلب مني أن أكتب المزيد... ولم يكن عندي في غياب الحريات وغياب المجلس النيابي وهيمنة عصا الرقيب الحكومي غير المزيد من السأم... ثم يتصل محمد بصفته صاحب جريدة الوطن يسألني أن أواصل الكتابة... رغم أنف الأوصياء... وقال لي: مهما منعوك... عبر عن ذاتك... ودع وجدانك يتحدث بالكلمة المقروءة... فمهمة الكاتب أن تصل كلمته إلى القراء ولو تم ذلك بطريق ملتوٍ كي تخادع الرقيب الولي.

تمضي اللحظات والأيام من عمر دهر لا ينتهي... مات عصام العيسى شريك محمد مساعد الصالح في مكتب المحاماة... ويتصل بالتلفون محمد مساعد "قائلاً بسخريته الحزينة لوداع عصام: خالي: أحضرت لي عصام ولم تخبرني أنه سيموت...!" لم أنتظر ولم أفكر كثيراً... قصدت مكتبه... وبدأت العمل في المكتب... ترك لي حرية القرار الأول والأخير في إدارة المكتب... كان ديمقراطياً... وكنت مستبداً... حين رأيت أن الانفراد بالرأي أحياناً قد يكون ضرورة تقتضيها الظروف.

سكت محمد ولم يعترض... وإذا ضاقت نفسه من تفردي... لم يكن يملك غير القلم... ليكتب لي رسائله يشكو مني وإلي... ولم يكن يفصلنا غير بضع درجات في المكتب... ألم أقل لكم إن محمد مساعد كان غارقاً في عشق القلم والورقة.

يمضي العمر... نشيخ... تمتطينا السنون... وبكل لحظة تمر من العمر نقترب من النهاية... لن يبقى من حلم الحياة سوى الذكرى... فهي الخالدة في عالم النسيان... كان وياما كان... رجل اسمه محمد الصالح مات في برهة زمان.