أعتقد أن آخر مرة شاركت فيها بحديث أو حوار عن أسامة بن لادن وتنظيم «القاعدة» كان منذ سنوات ربما، ولعلها نفس المدة التي انقضت منذ أن تابعت تغطية إعلامية ذات قيمة حولهما، وقد كان الناس حول العالم قد تناسوا، ولعلهم، بالفعل، نسوا حكاية بن لادن منذ سنوات مضت، واليوم وفي غمرة الأحداث الدامية الملتهبة في العالم، خصوصاً في منطقتنا العربية، خرج علينا خبر مقتل بن لادن على يد القوات الخاصة الأميركية في باكستان، فانصرف العالم بأسره وبلمح البصر، بكل وسائل إعلامه وقنواته، للحديث عنه مجدداً!

Ad

ولست هنا لأقول إن في الأمر خدعة أميركية، وإن كانت نفسي تشاغبني للميل نحو هذه الفكرة، فأميركا أثبتت لنا أنها سيدة الخداع والألاعيب والأجندات المزدوجة بلا منازع، بقدر ما أني لا أنفك أنبهر أكثر وأكثر من هذه القدرة الإعلامية الخارقة على توجيه، ليس الرأي العام فحسب، إنما العقل العام لكل العالم نحو الموضوع الذي يريدون، في التوقيت الذي يريدون، وبالشكل الذي يريدون. إنها قدرة مذهلة ساحقة لبرمجة عقول الناس على اختلاف مشاربهم!

أميركا بقتلها لبن لادن اليوم، هذا إن ثبت الخبر فعلاً خصوصاً أن هناك من يقول عكس ذلك، وبعيداً عن التحليلات القائلة بحاجة الرئيس أوباما إلى حشد واستعادة شعبية فقدها بعد عجزه عن تقديم شيء مقنع للشعب الأميركي، وتضاؤل فرصه في ولاية ثانية، فإنها، أعني أميركا، كانت تسعى إلى قتل هذا الرجل لتحقيق انتصار معنوي في معركة خسرتها طوال السنوات الماضية في حربها على الإرهاب، كما كان يحلو لها أن تسمي ما تقوم به، وكان بقاء بن لادن حياً يمثل بالنسبة إليها وصمة عار، وجرحا نازفا طوال الوقت تستحي أن تنظر إليه وتواجه الناس به، لذلك هي فرحةٌ جداً بما فعلته اليوم.

لكن بن لادن اليوم، وكما عرفنا عبر السنوات الطويلة التي تابعنا فيها حكايته هو وتنظيم «القاعدة» من خلال وسائل الإعلام الغربية قبل العربية، ليس هو العقل المدبر لتحركات هذا التنظيم، بل هو الأب الروحي والشخصية الرمزية الدلالية فحسب، وأن هناك لتنظيم «القاعدة»، الذي قد صار تنظيمات منفصلة عدة في الحقيقة، عقولاً مدبرة أخرى، كما أننا صرنا نعلم أن تمويل هذه التنظيمات ليس مرتبطاً بشخص بن لادن وحده، إنما يقوم على نظام مالي متشابك جداً، وهو الذي سعت أميركا إلى خنقه وإزهاقه عبر السنوات الماضية، وبالتالي، فإن قتل بن لادن جسدياً في الحقيقة هو مجرد قتل للشخص، لا قتل لتنظيم القاعدة برمته.

أقول هذا لأن بن لادن ما عاد مجرد شخص اليوم، إنما صار فكرة، والفكرة لمن يفهم المعنى الفلسفي شيء أكبر من كل فكر، الفكرة دوماً هي صانعة الفكر، الفكرة هي الومضة، هي الشرارة المشتعلة التي منها قد يتناسل الفكر بأشكال متنوعة، وتتكاثر مئات الجماعات والتحركات والانفعالات، من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ما بين المسالمة البحتة والمصادمة المدمرة.

تشي غيفارا، الطبيب المناضل الثائر الأرجنتيني، قد صار اليوم رمزاً لكل نضال وثورة ومواجهة للاستبداد، وصرنا نراه يُحمل في الأيدي وعلى الصدور شعاراً في الشرق والغرب مع أناس قد لا يتفقون مع فكره ومنهاجه، لكنها الرمزية والدلالات التي تكاثفت عبر السنوات في صورة هذا الشخص واسمه، فهل أسقطت أميركا، بقتلها لأسامة بن لادن، أول أحجار الدومينو المتتابعة نحو صناعة رمز ثوري نضالي جديد؟ رمز لمناضل، باع كل مباهج الدنيا، وبقي طوال السنوات صامداً في معاداته ومواجهته لأميركا دون كلل أو ملل؟

هل نفخت أميركا بقتلها ابن لادن على جمر تحت رماد تنظيم «القاعدة»، فأعادت بذلك إلهابه نفسياً وفكرياً... وعسكرياً؟ تساؤلات ستجيب عنها الأيام القادمة!