أعتقد أن أول من أطلق هذه التسمية على مصر وشعر بمركزيتها وثقلها الجغرافي والثقافي هو ابن بطوطة الرحالة المغربي (1304م- 1378م)، وذلك حين سماها (أم البلاد). وبدا أن وصف ابن بطوطة لمصر كان من البلاغة والإيجاز بحيث أحاط بأهم ميزاتها بين البلدان بثلاثة أسطر مختزلة، حين قال:

Ad

«أم البلاد وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة والبلد الأريضة، المتباهية بكثرة العمارة المتناهية بالحسن والنضارة... تموج موج البحر بسكانها... شبابها يجد على طول العهد... قهرت قاهرتها الأمم وتمكنت ملوكها نواصي العرب والعجم، ولها خصوصية النيل الذي أجل خطرها وأغناها عن أن يستمد القطر قطرها، كريمة التربة مؤنسة لذي الغربة» إلخ...

ويبدو ابن بطوطة من خلال هذا الوصف الشامل رحالة ذا رؤية وبصيرة، استطاع أن يضع اصبعه بهذا التقرير الموجز على أهم الملامح الحضارية لمصر، والتي لاتزال منذ كتابة هذا الوصف في القرن الرابع عشر الميلادي، ركائز راسخة لشخصية مصر على مر التاريخ:

1- أولى السمات اتكاؤها على حضارة عريقة عميقة الجذور. 2- الموقع الاستراتيجي والمساحة العريضة والتنوع الجغرافي. 3- عراقة العمارة والحسن والنضارة. 4- الكثافة السكانية والثروة البشرية والحراك الثقافي. 5- تاريخها السياسي العريق وكثرة ما مر بها من دول وملوك. 6- النيل وخيراته وأثره كثروة مائية. 7- مئول السياحة والأنس.

لعل هذه الإطلالة على مصر من خلال عينيّ ابن بطوطة لا تذكرنا بشخصية مصر الشاخصة على مر العصور فقط، وإنما تجدد فيها الدهشة أمام قدرة المصريين على التناسل والتناسخ عبر ذات الصورة المتكررة لشعب لا يتعب ولا

ييأس! مر الفراعنة والرومان والمماليك والأتراك والفرنسيون والإنكليز، ثم الفراعنة الجدد من أمام بيوت المصريين وحقولهم وأرزاقهم وكراماتهم، فما استكانوا ولا يئسوا، وظلوا يشاكسون وينتظرون الفرج، ويناوشون الشرور والمظالم بطريقتهم الخاصة وبمصريتهم القحة.

انظروا إلى تلك الجموع البشرية المتموجة كالبحر، تكاد في توهجها تكون مدرسة نموذجية قل نظيرها لفن التلاحم والصدور عن إرادة قلب واحد، وانظروا إلى تلك الوجوه المحتقنة بالغضب والنزق، وذلك الصبر الطويل الجميل، وذلك الانتظار المعجون بالتحفز والقلق، المتحايل على المستحيلات والمعضلات وتحديات العيش وتقلبات الحياة، وانظروا تلك الروح العامرة باليقين والجد، والمهيأة في وجهها الآخر لإغراء الهزل والنكتة، تصوغها حارة طازجة من أتون المعاناة وقلب الحدث. من يستطيع أن يكون كذلك غير المصريين؟!

إن المناخ العام لبلد له هذا الإرث الثقافي والثقل التاريخي والحضاري، قادر ولاشك على صياغة إنسان بهذه المواصفات الصعبة المتناقضة والمعقدة. ليس غريبا إذن أن يكون المصري على هذا القدر من الذكاء والقدرة والعصامية، وأن يكون رائدا في إرساء أسس التحديث والتنوير في شتى مناحي الحياة في عصرنا الراهن. ففي مصر تأسس تاريخ النضال السياسي وتكرست رموزه وعِبَرُه البليغة، ومن مصر انطلق الإصلاح الديني والاجتماعي والتثاقف الحضاري، وعلى أكتاف شعرائها وأدبائها قامت منارات الشعر والأدب والرواية، وبفضل ثلة فنانيها ومبدعيها تبلورت أفانين المسرح والسينما والغناء.

ثم ها هو يأتي الحدث الكبير لثورة 25 يناير ليضيف لمصر ألقا نادرا، وليكرس لشخصيتها بعدا آخر لا يقل جمالا وعبقرية، فالثورة الجديدة أتت بيضاء مسالمة راقية، نظيفة من الدماء والإرهاب والعنف، لتسجل للشعب المصري تاريخا جديدا لم يصنعه شخص واحد أو رمز فرد أو حزب أو كتلة على عادة الثورات، وإنما صنعه كل الشعب المصري بإرادة كلية وبطولة جماعية.

إن أمة امتلكت كل هذه المواهب، ستظل تلد الأعاجيب وتجترح المعجزات.