كان الموت وسيظل مشكلة وجودية عميقة الجذور في وجدان الإنسان وفكره. وقد عبّرالإنسان عن حيرته واهتمامه بهذه القضية على امتداد تراثه الأدبي والفني والفلسفي.

Ad

بيد أن ظاهرة التعامل مع الموت في الصحافة المعاصرة باتت تتخذ أبعاداً جديدة، فيها ما يثير العجب والطرافة، ومنها ما يستجلب الابتسام والتهكم!

فأشهر صور التعامل مع الموت في الصحافة اليومية يتبدى في إعلانات العزاء، وما أدراك ما إعلانات العزاء! فأول ما يلفت الانتباه في هذه الإعلانات هو حجمها ومواقعها في الصحيفة. فإن أتت في الصفحة الأولى أو الأخيرة وهي تفترش نصف مساحة الصفحة، فاعلم أن الميت من أصحاب الطول والشأن، أو هو منتمٍ إلى عوائل الحسب والنسب، أو في أحسن الأحوال ذو علاقة بالمؤسسات والشركات الضخمة وعالم المال والأعمال. وبسبب هذه الوضعية المميزة للمتوفى ستجد في الصفحات التالية للصحيفة تسابقاً منقطع النظير في نشر إعلانات مشاركة العزاء بصاحب الشأن حتى لتكاد تطغى على مواد الصحيفة وزواياها الثابتة.

في المرتبة الثانية تأتي أخبار وفيات الأعلام من المثقفين والأدباء والكتّاب، وهؤلاء لا يحظون بالمساحة المذكورة أعلاه في إعلانات العزاء، ربما بسبب التكلفة المالية العالية لتلك الإعلانات. وخاصة أن ذويهم أو محبيهم ليسوا بالضرورة من أصحاب المال والأعمال، بل من مستوري الحال أو من هواة القراءة والاطلاع ممن يقدرون الإنجاز ويحمدون الجهود، ولذلك يأتي عزاؤهم على هيئة تأبين وعرفان يتخذ شكل المقال أو التقرير، وهو أكثرإنسانية ودفئاً وأقل تكلفة.

أما النمط الثالث فيخص طبقة "البين بين"، وهؤلاء يحظون بالقليل من إعلانات الوفاة التي تأتي صغيرة في حجمها وتكلفتها، حتى لتكاد تضيع بين مواد الصحيفة! وقد تدّعم هذه الإعلانات المتقشفة بما يرفع من شأنها أو بالأحرى من شأن ناشريها، فنقرأ بأن المتوفى هو والد "الدكتور" فلان أو شقيق "المهندس" علان أو زوج "المدير" فلنتان! وكأني بإعلان الوفاة يأتي لتلميع الدكتور والمهندس والمدير لا للتعزية بالمتوفى!!

ويبدو –والله أعلم– أن إعلانات الوفاة أو مشاركات العزاء باتت تشكل دخلاً إضافياً مجزياً لأي صحيفة، لكنها في الوقت ذاته وبالضرورة ستكون عبئاً على ميزانيات ذوي الدخول المتواضعة، فيحتال هؤلاء ما وسعتهم الحيلة لتقليص مساحاتها أو تحديد مواقعها على خريطة الصحيفة، ولعل من المفارقات اللافتة في هذا المقام، أنه في الوقت الذي قد يتعذر فيه نشر إعلان عن وفاة تستحق التنويه بسبب ضيق ذات اليد, نجد مكان ذلك صورة ضخمة لراقصة أو عارضة أزياء تفترش صفحة كاملة! ولا عزاء للموتى من الفقراء والمساكين!

وبذلك، نأتي إلى الفئة الأخيرة من عباد الله المتوفين وهم من فئة "على باب الله"، فهم لا يُعدّون من علية القوم ولا من أعلامهم، وليس لهم في عالم الحسب أو الشهرة ناقة ولا جمل، ومثل هؤلاء لا مكان لهم غير عمود الوفيات في ذيل الصحيفة.

في عمود الوفيات فقط تتحقق العدالة والمساواة، وهذا أجمل ما في الموضوع، فالمتمعن في أسماء الوفيات في هذا العمود الأشهر، سيقرأ أسماء المتوفين حسب زمن ورود خبر الوفاة، بغض النظر عن المكانة الاجتماعية أو العمر أو الجنس أو الشهرة، فكبير القوم مثل صغيرهم وعظيمهم مثل حقيرهم! وكلهم من آدم وآدم من تراب! والتراب في النهاية يساوي بين الأضداد جميعاً، أو كما قال المعري:

رب لحد قد صار لحداً مراراً               ضاحكٍ من تزاحم الأضداد